المُعَارَضَة أخلاق
د.محمد بسام يوسف*
لعلّ ما ظهر من حراكٍ محمومٍ على الساحة السياسية والإعلامية خلال الأسابيع القليلة الفائتة، إثر إعلان الحركة الإسلامية السورية عن التعليق التكتيكيّ المؤقّت لأنشطتها المعارضة للنظام، أثناء العدوان الصهيونيّ على غزّة، لتوفير جهود الحركة دعماً للمقاومة الفلسطينية في تصدّيها للعدوان، وما تبع ذلك من مواقف سلبيةٍ انتهازيةٍ من قِبَلِ بعض المحسوبين على المعارضة السورية، الذين كان لهم الدور الأكبر في تصعيد الخلاف، ما أدى إلى اضطرار الحركة الإسلامية للانسحاب من جبهة الخلاص الوطنيّ المعارِضة.. لعلّ ذلك كله، يضطرنا إلى التدبّر بعمقٍ في المشهد السياسيّ المثير، الذي ما يزال حِراكه يتفاعل حتى هذه اللحظة، وذلك لاستنباط النتائج واستخلاص العِبَر والدروس المفيدة، التي ينبغي على الحركة الإسلامية السورية أن تأخذَها بالاعتبار خلال مسيرة عملها وجهادها، لرفع الظلم عن كاهل شعبنا السوريّ المضطهَد، وإزالة حالة الدكتاتورية والاستبداد القائمة في سورية منذ ما يقرب من خمسة عقود.
لقد تعرّضت الحركة الإسلامية السورية إلى حملةٍ إعلاميةٍ ظالمةٍ محمومةٍ لا تخلو من الإسفاف وتنفيس الأحقاد الدفينة في الصدور.. وَلَئن كانت مثل هذه الحملة الانتهازية متوقّعةً من قِبَل النظام السوريّ، وأبواقه التي تثبت يوماً بعد يومٍ، أنها غير مَعنيةٍ بمستقبل سورية ولا بمستقبل شعبها.. فإنّ ما يدعو للتأمل والدهشة، هذه الحملات المسعورة التي يشنّها بعض المعارضين السوريين، أو بعض المحسوبين عليهم، ولعلّ ما أسفرت عنه تلك الوجوه التي اختبأت وراء أقنعةٍ مزيّفةٍ طوال السنين الماضية، وما نضحته تلك القلوب الحاقدة من إسفافٍ وسوء خُلُقٍ وتقدير.. لعل ذلك من أهم ثمرات هذه المحنة التي تمرّ بها الحركة الإسلامية السورية، ومن أهم ما يدعوها إلى إعادة تقويم موقفها السياسيّ والعقديّ والحضاريّ، حين ترسم استراتيجيّتها القادمة، المواكِبة للمستجدّات والمتغيّرات المتسارعة في الساحات المحلية والعربية والإسلامية والدولية.
إنّ مما لا ينقضي له عجب، أن ينبري بعض الإشكاليين الذين ركبوا مركب المعارضة مؤخّراً.. أن ينبري هؤلاء لنسج الأكاذيب والأساطير، ليتّهموا بواسطتها الحركة الإسلامية، بعقليةٍ إعلاميةٍ متخلّفة، ما تزال تعيش في أجواء الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، فيخترعون لحملاتهم القصص الوهمية، وينفعلون متفاعلين مع ما يتم تسريبه إليهم من قِبَل جهاتٍ مشبوهة، فيقعون ضحايا التضليل والمكر، ثم يتّهمون الحركة الإسلامية بالوقوع في فخّ النظام!.. يتحدّثون بذلك دون أن ينتبهوا إلى أنّ الفخ الذي يتحدّثون عنه، إنما هو مُحكَم حول أقدامهم ورقابهم، يعصرهم عصراً، لكنهم، من شدة انفعالهم ونزقهم، لا يحسّون به ولا يشعرون بوطأته!..
من المتوقّع في مثل هذه الظروف، أن يبرزَ على الساحة كل صيّادٍ في الماء العكر، لأنّ أمثال هؤلاء الصيّادين يعيشون أزمة العجز، وعقدة النقص، ويظنون أنّ مثل هذه الظروف، هي فرصة تاريخية لإشهار أنفسهم، وإبراز أنوفهم أمام الكاميرات ومن خلال القنوات الإعلامية!.. وقد شاهدنا كيف انبرى المدفونون منذ سنواتٍ طِوالٍ تحت غبار العجز والضعف، لشتم الحركة الإسلامية، والنيل منها.. لأنهم يظنّون أن الصِّغار ربما يغرفون بعضاً من الشهرة، عندما يشتمون الكبار العماليق.
إنّ مما يدعو للتأمّل أيضاً، اشتراك بعض الدوائر الإعلامية القريبة من الاستخبارات الأميركية، في حملات التشنيع والتشهير بالحركة الإسلامية، وبصورةٍ متناغمةٍ مع سياسة النظام السوريّ من جهة، ومع الحملات المسعورة الباطلة لبعض المحسوبين على المعارضة السورية.. من جهةٍ ثانية!..
وما يدعو للتأمّل كذلك، هذا الفهم السطحيّ لموقف الحركة الإسلامية، من قِبَل أشخاصٍ من المفترض أن يكونوا أكثر عمقاً وفهماً وقدرةً على الاستنباط والتفكير الإيجابيّ.. وإلا ما معنى أن يفسِّر هؤلاء انسحابَ الحركة الإسلامية من جبهة الخلاص، بأنها خطوة تدل على اصطفاف هذه الحركة إلى جانب أصحاب المشروع الإيرانيّ الفارسيّ (إيران والنظام السوريّ وحزب الله)؟!.. وكأنّ الانسحاب من جبهة الخلاص، هو انسحاب من المعارضة، واستقالة من التصدّي للظلم والقهر والاستبداد!.. هذه خِفّة سياسية، وسطحية فكرية كنا نظن أنّ أمثال هؤلاء بعيدون عنها!.. ولعلّ هذه الأساليب الساذجة التي عفى عليها الزمن، في التعامل مع التفاعلات السياسية، قد أكّدت صحة قرار الحركة الإسلامية السورية، بالانسحاب من جبهة الخلاص الوطنيّ!..
وما يدعو للتأمّل أيضاً وأيضاً، ظهور بعض الخفافيش وهم يحملون رايات المزاودة على الحركة الإسلامية السورية.. المزاودة في المعارضة، والمزاودة في الوقوف بوجه الظلم والاستبداد، والمزاودة في الوطنية، والمزاودة في الذكاء السياسيّ، والمزاودة في التصدّي للباطل والاستبداد!.. يفعلون ذلك متناسين أنّ الحركة الإسلامية هي التي ملأت سابقاً، وما تزال تملأ، وستبقى تملأ.. ساحات الصراع مع الباطل، ويتناسى هؤلاء أنّ أبناء الحركة الإسلامية وُلِدوا وترعرعوا ونضجوا في ساحات الصراع هذه، بينما كان هؤلاء المزاودون وأمثالهم، إما جزءاً من تركيبة الباطل والاستبداد، أو ممن يمصّون أصابعهم بعد غمسها في إنائه.. ويتناسى هؤلاء كذلك، أنّ الحركة الإسلامية السورية هي أصل كل معارضة، وعمود كل مواجهةٍ مع الباطل، وصلب أي عملٍ معارضٍ مثمر، وأنهم حين ينضحون من أحقادهم وإنائهم، إنما ينتصرون لنفوسهم الضيقة، ويعملون لذواتهم الضئيلة، على حساب وطنٍ وشعبٍ.. وقضيةٍ كبرى ما تزال تنبض في كل قلبٍ يسكن في صدر حرٍ من أحرار الحركة الإسلامية!..
العمل المعارِض عمل شريف، يحتاج إلى الشرفاء، والعمل المعارِض عمل بنّاء يحتاج إلى البنّائين، والعمل المعارِض عمل حضاريّ راقٍ بأخلاقيته وفكره ووسائله وسلوكه ونظافته وعفّته.. وعلى الذين لا يملكون القدرة على التحلّي بهذه الصفات الإنسانية الحضارية، فأولى بهم أن يجدوا لهم مكاناً في كنف النظام الاستبداديّ، لأنهم بذلك لا يختلفون عنه في سلوكه وأخلاقياته!..
إنّ ما جرى ويجري من انكشافٍ لحقائق الأشياء في بوتقة المحسوبين على المعارضة السورية، يدعو إلى إعادة النظر والحسابات لدى الحركة الإسلامية، ولعلّ تفعيل عملية البناء الداخليّ، وإحياء عمليات الحوار مع الإسلاميين والجماعات الإسلامية، وبناء جبهةٍ إسلاميةٍ عريضةٍ قائمةٍ على منهج الإسلام، مرتكزةٍ إلى رؤيةٍ متطوِّرةٍ لبناء دولةٍ مدنيةٍ ذات مرجعيةٍ إسلامية، قادرةٍ على الوقوف بوجه المشروعات العدوانية المختلفة التي تجتاح بلادنا، وبوجه عملاء أصحاب هذه المشروعات وأذنابهم.. لعلّ ذلك كله، يعيد للحركة الإسلامية ألقها، ويُزيح الدخن عن أصالتها وأصلها، ويضعها في الطريق الربانيّ السليم الصحيح، الذي يُرضي الله عزّ وجلّ أولاً، ويُعبّر عن إرادة شعبنا بأكثريته الكاثرة ثانياً، ويفي حق المبادئ والثوابت بلا مواربةٍ ولا غموض!.. ولا عزاء للخفافيش، سواء أكانوا من سكّان سراديب النظام الاستبداديّ، أم من مقيمي مَغارات المحسوبين على المعارضين، الذين لا يهشّون ولا ينشّون، أو من أصحاب المشروعات الهدّامة المشبوهة وعملائهم!..
*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام.