الالتزام؟!
صلاح حميدة
ساد الكثير من الجدل حول كلمة( الالتزام) التي تريدها حركة فتح وبعض فسائل منظمة التحرير الفلسطينية، تريدها واضحة صريحة شفافة مثل الكريستال فيما وقعته هذه المنظمة مع دولة الاحتلال على أرض فلسطين، وهي اتفاقيات تعترف بواقع الاحتلال وشرعية احتلاله على أرضنا، مقابل اعترافه بتلك المنظمة بفسائلها على أنها الممثل للشعب الفلسطيني؟!.
تسنى لي حضور محاضرة لمسؤول ملف المفاوضات في تلك المنظمة، حول نفس الموضوع، وتحدث بإسهاب حول هذه القضية معتبراً أنها تقع في صلب وجوهر الحوار، ووضع القضية في عدة محاور:-
*المحور الأول:-
يقع في التزامات الدول فيما بينها، وقال أن الدول مهما تغيرت الأنظمة فيها، فإنها لا تغير ولا تتنصل من التزاماتها، وذكر أمثلة على ذلك، النظام الايراني بعد وقبل الخميني، وقال أن الخميني غير كل شيء في إيران إلا الالتزامات، حتى الأمني منها مع الأمريكان، ولكن أمريكا هي من ألغت الاتفاق؟ كما تحدث عن النظام العنصري والذي تلاه في جنوب أفريقيا، وكيف أن الذي تلاه كان ملتزماً بالتزاماته السابقة.
*المحور الثاني:-
محور الالتزام الفردي، الذي برره بأن أي شخص يموت والده، يقف على المقبرة ويقول للناس:(من له مال أو حق عند والدي، فأنا مستعد للدفع عنه).
لم ينس الدكتور طبعاً، أن يصف مواقف من يرفضون( الالتزام) بالمزاودات، وصنف مواقفهم تقريباً ب(الدينكاشوتية) ومقاتلة طواحين الهواء، مضافاً إليه اتهام واضح مع بعض الغمز، بأن هذه المواقف تأتي خدمة لمصالح إقليمية! وأعتقد أن استخدام المثال الايراني جاء في هذا السياق أيضاً.
بعد سماع المحاضرة، حرصت على التدقيق في الكلام الذي قيل حول النظامين الايراني والجنوب إفريقي، فلم أجد الكلام دقيقاً على أكثر من صعيد، ففيما يخص إسرائيل، لم تلتزم إيران بأي شيء تجاهها، بل صادرت المبنى الخاص بسفارتها ومنحته لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي يرأس الدكتور ملف التفاوض فيها؟!.
أما جنوب إفريقيا، فهي تحتضن (مؤتمر ديربان) المناهض للعنصرية، والذي يعتبر أن دولة إسرائيل دولة عنصرية، وأن الصهيونية نوع من أنواع العنصرية، ولا يقاطع هذا المؤتمر إلا إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، فهل هذا المؤتمر كان ينظم زمن النظام العنصري السابق؟.
وبالعودة إلى المطالبة بالالتزام الفلسطيني والحكومة الفلسطينية، بما التزمت به منظمة التحرير الفلسطينية ، فهذه الالتزامات غير ملزمة للقادمين الجدد للمنظمة والحكومة لعدة أسباب:-
1- هذه التزامات تنتقص حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة والمحقة، والتي لم يخول أي أحد(منظمات وأفراد) هذه المنظمة أن تتنازل عنها.
2-هذه المنظمة بكل أطرها غير شرعية التمثيل ولا تمثل إلا النزر اليسير من الفلسطينيين، فهي عملياً بالتزاماتها تنازلت عن حقوق نصف الشعب الفلسطيني في الشتات وبالتالي فقدت تمثيلها لهم تلقائياً، وهي تنزع عن نفسها تمثيل مليون فلسطيني في الداخل الفلسطيني المحتل، بتأكيدها على أسرلتهم، وبالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينت الانتخابات أن هذه المنظمة لا تمثلهم أيضاً، عدا عن عدم تمثيل المنظمة للقوى الرئيسة في الحركة الوطنية الفلسطينية.
3-الالتزامات التي تحدث عنها الدكتور، هي التزامات بين دول، لا التزامات بين دول ومنظمات، وبالرغم من ذلك لم تلتزم الدول بها، وأي دولة تجد أن أي التزامات سابقة أضرت بمصالح شعبها وأذلته، لا بد لها، بل يجب عليها رميها في سلة النفايات، وهذه الاتفاقيات ليست قدراً على الشعوب.
4- منذ توقيع اتفاقيات منظمة التحرير ودولة الاحتلال وحتى اليوم، أثبت الواقع على الأرض أن الطرف الثاني من عقد التوقيع على الاتفاقيات لم يلتزم بها، بل إن من قادة حكومات الاحتلال من أعلن أن (أوسلو لم تعد قائمة)؟ ولم تعد الاتفاقية فقط مثل (الجبنة السويسرية) من كثرة الخروقات فيها، بل الأرض الفلسطينية أصبحت كذلك من كثرة إعمال الجرافات والاستيطان فيها، والجسد الفلسطيني أصبح كذلك من كثرة اختراق الرصاص والقذائف له أيضاً، بل وصلت الأمور إلى قتل دولة الاحتلال لشريكها في التوقيع على الاتفاقيات؟!.
فهل التزمت منظمة التحرير لدولة الاحتلال، بالالتزام بالاتفاقيات، والتزمت دولة الاحتلال للمنظمة بعدم الالتزام بها؟ وإذا كان الجواب لا؟ فلماذا تصر المنظمة على الالتزام بما لم يلتزم به شريكها؟.
أما على مستوى الالتزام الفردي، فلا أحد يملك أن يلتزم بما التزم به والده مثلاً، إذا كان التزم والده لليهود بالتنازل لهم عن أرضه، ولا يلزم إلا توقيع الولد حتى يتم التنازل والتطويب؟ فإذا كان والدي عليه دين(مال) التزمت به ودفعته(في حالة كون المال مستحق لرفقاء سوء نتيجة لعب قمار، فلا يجوز سداده، فكيف بأرض فلسطين؟؟)، أما وطني فلا يلزمني التزام أي شخص ولا منظمة على وجه الأرض، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل بالتنازل عنه.
فمثلاً لو أراد الدكتور الالتزام للاحتلال بالتنازل عن بيته في قريته الأصلية قرب القدس، أو أراد الالتزام بالتنازل لهم عن بيته حيث يسكن، فهل هذا يلزم أحداً من عائلته؟ وإذا كان جوابه مستهجناً طرحي هذا، من باب رفض التنازل عن بيته للاحتلال، فلماذا يطلب مني كلاجىء أن ألتزم بالتزامه التنازل عن حقي بأرضي وبيتي وبيت جدي؟.
خلال انتفاضة الحجارة، إقتحم جيش الاحتلال ومخابراته بيتاً لأحد اللاجئين الفلسطينيين قرب بلدة الدكتور بجوار القدس، يريدون اعتقال ولده، وخلال الحديث الذي دار بين الوالد وضابط المخابرات، سأله الضابط :(هل لا زالت تأمل بالعودة إلى بلدك؟).
فقال له:-
( إذا كنت أنت لا تزال تذكر أنها بلدي وليست بلدك، فهل تريد مني أن أنساها أنا؟) ثم أردف قائلاً:-
(إسأل أولادي وأحفادي كلهم من أين أنتم؟ وأتحداك إن قال لك أحدهم أنا من هذه البلدة التي نعيش فيها، سيقول لك كلهم، نحن من القرية الفلانية التي تحتلونها أنتم).
بغض النظر عن المناكفات والصراع السياسي الداخلي والرغبة الجامحة بجر الرافضين للالتزامات التي قدمت للاحتلال مجاناً، حتى يقول الملتزمون الجميع مثلنا فلا تتهمونا).
يوجد حقيقة لا تتغير ولن تتغير، لا يغيرها التزام منظمة التحرير ولا غير منظمة التحرير، وهي أن هذا الشعب له حقوق بأرضه وبالعودة إليها، وبالعيش بكرامة فوقها وأن يدفن تحتها بكرامة أيضاً.