تقليبات عفوية في عهد الكروب
تقليبات عفوية في عهد الكروب
أ.د/
جابر قميحةسألني صحفي بجريدة المسائية اليومية عن رأيي في الانفجار الذي وقع مساء الأحد الموافق 22 من فبراير 2009 في المشهد الحسيني . ونشر جوابي في اليوم التالي في المسائية . فكتب الكلمات الآتية :
" د. جابر قميحة أستاذ البلاغة والأدب بجامعة عين شمس يري أن الحادث في حد ذاته إجرامي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معني ، وهو يتعارض مع الإسلام تعارضاً كاملاً ؛ لأن الإسلام يعمل علي تحرير الإنسان من الخوف ، ويعمل على إشاعة السلام الاجتماعي ، وجعل الصلة بين المواطنين جميعاً قائمة علي الأخوة ، وجعل الصلة القائمة بين المواطنين والحاكم تعتمد علي العدل والصراحة. ويشير د. قميحة إلي أن الحادث يتعارض تماماً مع الحد الأدني من الرجولة ؛ لأن الرجل يواجه ، ولا يضرب في الظلام ، ويجب أن يكون عمله بدوافع وبواعث إنسانية وخلقية واعية ".
هذا ما نشره الصحفي ، أما بقية الحديث وهو الأهم فلم يشر إليه الصحفي بكلمة واحدة . ومنه تعليلي لما حدث ، ويتلخص فيما يأتي :
المسئول الأول عن هذه الجريمة هو نظام الحكم القائم ، وهو نظام يملك من القوة الدافعة الضاربة قرابة مليون ونصف مليون من عساكر الأمن المركزي ، وهذا الرقم الضخم يعد أكبر من مجموع جيوش البلاد العربية كلها ، بما فيها مصر . ولكن مما يؤسف له أن يصدق على هؤلاء المقولة الاقتصادية " غزارة في الإنتاج ، وسوء في التوزيع " ، فالمفروض أن تكون هذه القوات الهائلة مرصودة للحفاظ على أمن مصر ، وبناء على هذا الهدف كان يجب توزيع هذه القوات على القرى والمدن ، وتحديد مسئولية كل شريحة منها عن مرفق معين أو جهة معينة لحمايتها من اعتداء المعتدين .
ولكن المؤسف أن هذه القوات الهائلة رُصِدت لحماية عرش الحاكم ، وتأمين الكبار جدا ، وضرب المعبرين عن آرائهم بحرية ، والتسلط على كل ذي اتجاه إسلامي ، وخصوصا الإخوان المسلمين .
وكأني باعتراض يتصدى ويقول هذه الجماعة بالذات محظورة بأمر القانون حتى أصبح لا يعبر عنها إلا ب " المحظورة " .
وأجدني أسأل : أي قانون يقصد من يصر على هذا اللقب الغريب ؟ هل يقصد القانون الطبيعي ؟ أم يقصد قانون الطوارئ ؟ ... يا سادة إن نظام الحكم القائم نظام غير قانوني ... ومصر تعيش الآن بغير قانون ؛ فالكلمة الأولى والعليا لرجال الأمن وللداخلية .
**********
ثم يشدني الاستطراد العفوي فأسأل عن مفهوم الحظر ... إن الحظر في اللغة معناه : المنع والحجْر .
والذين يحكمون بالحظر ، أو الإباحة في مجال الأحزاب يعتمدون علي الظاهر المشهور من التحرك والنشاط والإجازة القانونية. ويغفلون أهم قواعد الثبات والبقاء والتفوق الحزبي . وأعني بها القاعدة النفسية ، أي مكان أو مكانة هذا «التنظيم الحزبي» قادة ومبادئ، وخططا في نفوس أعضائه بخاصة ، ونفوس الشعب بعامة ؛ لأن الحظر أو الإجازة لا يكونان بقرار حكومي سلطوي ، ولكن بقرار شعبي عملي يصدر بلسان الحال ، لا لسان «المقال»، ويتمثل في ثلاثية: الحب والاعتناق والالتفاف. أي حب الأعضاء للحزب وإخلاص الود والوفاء له ، واعتناق مبادئه والإيمان بها إيمانًا عميقًا ، والالتفاف بمعني حماية الحزب ، والتضحية من أجله .
وإذا ما نظرنا إلي الحزب الوطني ، وجدنا أن أبعاده وقدراته وسلوكياته تتمثل في المفردات الآتية :
1- إمكانات ضخمة من المال والمباني والحراسات وأمن السلطة.
2- أغلبية مدّعاة ، قالوا إنها لا تقل عن ثمانين في المائة من الشعب، وأنها لن تقل عن ذلك في المستقبل ، وكل مستقبل ، بل ستزيد زيادات مطردة ، بذلك صرح الشاذلي ذات يوم لصحفي «بالعربي الناصري» ، وأقول «قلبك أبيض يا شاذلي... فالغيب لا يعلمه إلا الله».
3- براعة فائقة في فنون تزوير الانتخابات والإرادات ، والتأمين «الأمني» المكثف.
4- تقديم أهل الولاء الحزبي علي أصحاب الخبرات والولاء الوطني ، بصرف النظر عن مصلحة الشعب ، وخصوصًا الطبقات الدنيا.
5- الوعود البراقة التي لم يتحقق منها شيء ، بل تحقق بها نقيض المنشود مثل: الوعد.. بل الوعود برفع المعاناة عن المواطنين ، والقضاء علي البطالة ،والارتفاع بمستوي التعليم والثقافة... إلخ.
وبعد كل أولئك من حقي أن أقول إن هذا الحزب الوطني هو «المحظور» الأول في كل الأحزاب، وهو «المكروه» الأول ، وهو «المعزول» الأول ، فليس له «قاعدة نفسية» في نفوس الشعب ، بل بني كبارهم بينهم وبين قلوب شعبنا المطحون حائطًا خرسانيًا سميكًا متينًا. فإذا سمع أحد المواطنين اسم «الحزب الوطني» قفزت إلي خاطره كلمات النفعية والادعاء والتزوير والبهرجة و«العض» علي الكراسي بأسنان أقوي من حديد " أحمد عز " !
***********
وارتباطا بالمفاهيم السابقة نرى هذا الحزب الوطني الديمقراطي ( !!!!) يعيش في وهم كبير وهو أنه حزب الأغلبية . كالذي تعود أن يكذب على الناس حتى صدق نفسه ، وتشبث بوهم كبير... وهم خيالي ، يذكرنا بالمخدرين ... عشاق الدخان الأزرق . فرأينا السيد صفوت الشريف وهو في صحبة جمال محمد حسني مبارك في زيارة الجرحى الفلسطينيين في مستشفيات رفح يقول لهؤلاء الجرحى : " إن الحزب الوطني الديمقراطي حزب الأغلبية معكم دائما ، ويوجه قوافله إلى أهل غزة بصفة دائمة "
فبالله عليكم خبروني . ماذا يهم الراقد المثخن بالجراح أن يكون الحزب " حزب أغلبية " أو " حزب أقلية " ؟
**********
واستجابة للاستطراد العفوي أجدني أسأل في أسى ومرارة : هل بلغت الاستهانة بشعب مصر أن تحمل الأهرام في صفحتها الأولى هذا الخبر الغريب تحت عنوان :
عندما قالت طفلة من قرية الزرابي لجمال مبارك: متشكرين يا عمو
ومما جاء في الخبر " ... ودار حديث من القلب بين أمين السياسات وأهالي القرية في أثناء جولته ، ففي زيارته لإحدي الحضانات بمدرسة متطورة أعربت طفلة عن فرحتها بالزيارة والاهتمام الذي يبديه السيد جمال مبارك ، فقالت له: "متشكرين ياعمو" عندما أخذ يلاعب الأطفال ، ويحكي لهم ما كان يفعله عندما كان في عمرهم ، وأنه كان يستخدم هذه القطع في ألعابه " . الأهرام 15 فبراير 2009 .
وإني لأسأل السيد المبجل جمال محمد حسني مبارك ، ثم صحيفة الأهرام : هل اكتشفتم فتحا مبينا ، وكسبا سياسيا ، وخبرا مهما في قول طفلة صغيرة : متشكرين يا عمو ؟ وهل لو تقدم إليها عامل أو بواب بمصاصة هل كانت ستقول غير ذلك ؟ .
أما عن زيارات المحروس جمال ، فيقال ويكتب العبارات الآتية : وفي جمع حاشد من أهل قرية كذا وقف سيادته بين الجماهير يلاطفهم ، ويعيش مشكلاتهم ... و ... .
مع أن أجهل المواطنين يعلم أن من يحضر هذا الجمع الذي وصف بأنه حاشد إنما يختارهم الأمن " على الفرازة " ... والباقي معروف .
**********
ولأن الولد سر أبيه كما يقول المثل العربي يشدنا الابن إلى الوالد السيد محمد حسني مبارك الذي بهر العالم كله بما يتمتع به من سلطات واسعة جدا ما تمتع بها أحد من قبل ، لا من الملوك ولا من الرؤساء . حتى إن مندوب صحيفة الفيجارو الفرنسية سأله : لماذا لا يخفض من سلطاته الواسعة استجابة للرأي الآخر من الشعب المصري ؟ ... فكان جوابه :
في حالة انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر، فإن الحد من فترات الحكم ستكون بمثابة عائق أمام رغبة الشعب ، أما بالنسبة للحد من سلطات الرئيس ، فإن ذلك سيعني إعطاء الرئيس دورا شرفيا . إن رئيس الجمهورية هو الضمان لتحقيق الاستقرار . ( الأهرام 25 3 2005 ) .
************
وليس من فضول القول أن نذكر في هذا السياق الحقيقة أو الحقائق الآتية:
باستثناء مدة حكم محمد على باشا لا نجد واحدا من أسرة محمد على ، ولا واحدا من رؤساء مصر في عهد الثورة ، يماثل أو يقارب مدة حكم السيد المبجل محمد حسني مبارك حتى الآن .
ومن المفارقات العجيبة أن مدة حكم مبارك تقارب مجموع مدة حكم آخر ملكين في تاريخ مصر : الملك فؤاد ، والملك فاروق .
وتكاد تساوي مدة حكم الرؤساء الثلاثة في عهد الثورة الميمونة : محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات .
**********
وامتدادا للاختلال الذي يهيمن على عقليات الكبار ، والاستهانة بقيمة هذا الشعب ، فقد الشعب ثقته تماما بالقائمين على الحكم ، وأصبحت الإضرابات والمظاهرات والاعتصامات هي الوسيلة المثلى والوحيدة لنيل الحقوق المهدرة .
ولا نبالغ إذا قلنا إن العهد المباركي بمنهجه هذا قد أصبح في حالة احتضار .
***********
إنها تقليبات عفوية تركت لقلمي الحرية في تسجيل مضامينها ، بداية من حادث الحسين . والدافع أوالرابط الجامع بين هذه التقليبات العفوية هو الشعورالشعبي الحزين الحاد بفساد الحكم ، وفداحة المشكلات التى تتفاقم وتأخذ بخناق هذا الشعب المسكين المطحون .
وندعو الله أن يحمي مصر من كل سوء .