انتصرت غزّة وربّ الكعبة
د. أبو بكر الشامي
بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من العدوان الصهيوني الظالم على قطاع غزّة المجاهد ، وبعد ذلك الصمود الأسطوري المشرّف لفصائل المقاومة البطلة ولأهل القطاع الأبرار ، وبعد أن زال الغبش ، وتوضحت الأمور، وتكشفت الحقائق ، وسقطت وريقات التوت عن عورات المحتلين المجرمين وعملائهم المنافقين..!! كان لابد لنا من وقفة تقييم دقيقة ، ومراجعة شاملة ، نضع فيها نقاط الحقيقة فوق حروفها ، وننشر بين يدي شعبنا الفلسطيني المجاهد وجماهير أمتنا العربية والإسلامية الوفية ، حصاد تلك المنازلة التاريخية الرائعة لكل أطراف المعادلة فيها ، وهي : المحتل الغاصب ، وعملاؤه المدنّسون ، والمقاومة الفلسطينية الباسلة ...
* أما المحتل الآثم : فقد فشل فشلاً مخزياً في تحقيق أي من أهدافه الخسيسة ...
والحديث عن فشل أهداف العدوان يستدعي التذكير بأهم أهداف ذلك العدوان والتي لم تعد خافية على أي من أبناء شعبنا المجاهد ، وأمتنا المجيدة ، والشرفاء في العالم ، والتي من أهمها :
1. سحق المقاومة المجاهدة في غزّة ، واعتقال قياداتها ، وتدمير بنيتها العسكرية والصاروخية ، وتدمير نموذجها المتمرّد على الإرادة الصهيونية في الأمتين العربية والإسلامية ، بل في العالم بأسره ...
2. إجهاض الصحوة العروبية والإسلامية في فلسطين والأمة ، وقتل أية بذرة من بذور الخير والرجولة والفضيلة والكرامة والتحرر فيها .
3.تحرير الجندي شاليط وإعادته إلى أهله كنوع من الدعاية الانتخابية .
4.إعادة العميل دحلان إلى غزة ( وهو جاهز مع خمسة عشر ألف جندي مدرّب على أيدي المخابرات الأمريكية والموساد في مصر )، وإنهاء القضية الفلسطينية .
كل ذلك إنما يجب أن يتم بسرعة قبل تنصيب أوباما ( 20/1 / 2009) وقبل بدء الانتخابات الصهيونية ( 10/2 / 2009 ).
ولقد فشل الصهاينة على جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والإعلامية والأخلاقية وغيرها ...
وخسؤوا في تحقيق أي من أهدافهم الغادرة ...
* فأما على الصعيد العسكري ،فقد فشلت القوات الصهيونية الغازية فشلاً مخزياً في تحقيق أي من أهدافها ، بالرغم من تفوقها المطلق من الناحية الفنية ... ولقد اعترف كبار جنرالات الحرب الصهاينة بهذه الحقيقة المرّة ، كما نشرت كبريات الصحف الصهيونية والغربية وغيرها مقالات مزلزلة ، تشخص فيها حجم الخيبة التي واجهتها القوات الصهيونية الغازية ، حيث بقيت طيلة فترة العدوان وهي تراوح مكانها ، بدون أن تحقق أي تقدّم على الأرض ، مما اضطرها للتعويض عن فشلها ، والتغطية على خيبتها بالمزيد من الإجرام ضد الأطفال والنساء والمدنيين العزّل ...!!!
ورب عربي لا تنقصه الغيرة والإخلاص يحب أن يسأل : ترى كيف لنا أن نسلم بانهزام الصهاينة عسكرياً ، إذا كانوا قد دخلوا القطاع وأحدثوا فيه كل ذلك الكم الهائل من الدمار والخراب ...!!!؟
وللإجابة على هذا التساؤل المشروع ، لا بد لنا أولاً أن نذكر شعبنا العظيم وأمتنا المجيدة بحقيقة النصر ومعانيه في حرب القلة المؤمنة ضد الكثرة الكافرة عبر التاريخ العربي الإسلامي كله ، وكما هو حاصل على أرض العراق اليوم وأرض فلسطين المقدسة ، وأرض أفغانستان المسلمة ، وغيرها من الأراضي العربية والإسلامية المجاهدة ...
ولنقرأ جميعاً هذه الآيات المباركات : بسم الله الرحمن الرحيم (( قُتِلَ أصحابُ الأخدودِ ، النَّارِ ذات الوقودِ ، إذْ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )).
البروج ( 4_7 ). صدق الله العظيم .
هذه الآيات هي من سورة البروج ، وهي من السور المكيّة ، التي تُعنى بعرض حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإسلامي ، وتهتمُّ ببناء القاعدة الصلبة من المؤمنين ، الذين يقوم على أكتافهم بناء الدين ، والدفاع عن المباديء.
وهي تحكي قصة مجموعة من المؤمنين السابقين ، الذين ابتلوا بأعداء كفرة حاقدين ، وطغاة ظالمين مجرمين، أرادوهم على ترك عقيدتهم ، والتخلّي عن مبادئهم ، فأبوا ذلك ، واعتصموا بعقيدتهم ، واستمسكوا بمبادئهم ، فحفر لهم الطغاة أخدوداً ، وأوقدوا فيه النيران ، ثم قذفوهم فيها ، على مرأى ومسمع من الجموع المحتشدة ، التي ساقها الطغاة بالقوة ، لتشهد فصول تلك المذبحة الرهيبة ، وبمثل تلك الدرجة من الوحشية والساديّة ، وانعدام أية أثرة من خلق إنساني ، أو ضمير بشري ، وبدون أي ذنب اقترفه المؤمنون ، اللهم إلا ( ذنب ) التمسك بالمباديء ، والدفاع عن العقيدة ...!!!
وربَّ سائل يسأل : ترى ، مالذي يمكن أن تفعله حفنة من المؤمنين ، أمام جيوش الطغاة الجرارة ، وقواتهم المدجّجة بالسلاح .!؟
وما هي النتيجة التي يمكن أن تتمخّض عن صمود مجموعة من المؤمنين أمام جحافل الظالمين ، واستبسالهم في الدفاع عن مبادئهم وأوطانهم ، واستشهادهم من أجل دينهم وعقيدتهم .!؟
وللإجابة على مثل هذا التساؤل المهم أيضاً نقول : إن النصر الحقيقي ، هو في تمسك أصحاب العقائد بعقائدهم ، وتمسك أصحاب المباديء بمبادئهم ، ودفاعهم عن قيمهم ، وتضحيتهم من أجل عقيدتهم وأوطانهم ومبادئهم ، ولقد تكفّل الله تعالى ، بتحقيق النصر لعباده المؤمنين ، على أعدائهم الكافرين فقال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم (( إنا لننصرُ رسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار )) غافر ( 52).
وإذا جاء الوعد من الله المقتدر ، فلا شك أنه حاصل لا محالة ، ولكنَّ الناس يقيسون بظواهر الأمور ، ويغفلون عن جوهرها وحقيقتها ، أو يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيّز محدود من المكان ، وهي بلا شك مقاييس بشرية قاصرة .!
فأما المقياس الإلهي ، فهو مقياس شامل ، يعرض القضية الإيمانية في رقعتها الفسيحة ، الممتدّة على مديات الزمان والمكان .
ولو نظرنا إلى القضية الإيمانية بهذه السعة ، وهذا الشمول ، لرأينا أنها قد انتصرت في النهاية من دون أدنى شك. فلقد خاض الإيمان مع الشرك _ منذ فجر البشرية إلى اليوم _ جولات وجولات ، كانت الغلبة في النهاية لصالح التوحيد والإيمان المحصّن بالحق ، على حساب الشرك والظلم والعدوان المدجج بالباطل ...
هذا من جهة ... ومن جهة أخرى ، فإن الناس يقصرون معنى النصر على صور حسيّة معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم ، ولكنَّ صور النصر في ميزان الله كثيرة ومتعددة ، وقد يتلبَّس بعضها بصور الهزيمة عند أصحاب النظرة السطحية المحدودة ..
فخليل الله إبراهيم عليه السلام ، كان قد انتصر _ في ميزان الله _ وهو يُلقى في نار النمرود ، لأنه كان قد ثبت على عقيدته ، ولم يتنازل عن مبادئه ..
وأصحاب الأخدود ، الذين سبقت الإشارة إليهم ، كانوا قد انتصروا أيضاً ، وهم يُلقَون في نار الطغاة ، لأنهم كانوا قد تمسَّكوا بدينهم ، وضحّوا من أجل عقيدتهم ومبادئهم .
والحسين بن علي ( رض ) ، كان قد انتصر، بالرغم من استشهاده ، وما كان لألف خطبة ، وألف قصيدة أن تنصر قضيّته ، كما نصرتها قطرات الدم المهراق من جسده الطاهر فوق تراب كربلاء ..
وصدام حسين رحمه الله ، كان قد انتصر على أعدائه الأمريكان والصهاينة والصفويين صبيحة عيد الأضحى المبارك ، وهو معلّق على أعواد المشنقة ، وما كان لألف قصيدة وألف خطبة وألف محاضرة أن تنصر قضيته العادلة ، وتفضح أعداءه الحاقدين المنحطين بمثل ما فضحتهم به تلك اللقطات الرهيبة التي ختم بها الدقيقة الأخيرة من حياته ...!!!
والفلوجة ، وقبلها سامراء والنجف وتلعفر ، وجميع مدن العراق الصابرة المجاهدة ، كانت قد انتصرت على الأمريكان القتلة ، بالرغم من كل ما أحدثوه فيها من خراب ودمار ، لأنها كانت تدافع عن كرامتها واستقلالها، ولأن المجاهدين العمالقة الذين كانوا يجاهدون على ثراها فيقتلون ويُقتلون ، إنما كانوا يذودون عن عقيدتهم ، ويدافعون عن شرف الأمة وعزّتها وكرامتها ...
* وكذلك انتصرت غزّة في ملحمتها الرائعة بدايات هذا العام واندحر العدوان الصهيوني وانهزم شرّ هزيمة ، ولقد فشل في تحقيق أي من أهدافه العدوانية الشرّيرة كما ذكرنا ... وهذه هي أهم دلالات ذلك النصر الباهر :
* أولاً : الصمود الاسطوري الذي أبدته المقاومة المجاهدة في وجه أعتى قوة عسكرية في المنطقة ، ورابع قوة عسكرية على مستوى العالم … نشهد بأن الصمود ، الذي استوعب كل تلك الهجمة البربرية الرهيبة لمدة ثلاثة أسابيع وأحبطها .
نشهد بأنه ليس من صنع البشر العاديين، بل هو من صنع ربّ البشر !!!
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) 12)لأنفال(
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً
حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) 17) لأنفال(
وإن مما لاشك فيه، أننا سنفرد لهذه القضية الهامة، وربما غيرنا فعل ذلك أيضاً، بحثاً خاصا، أو بحوثاً وكتباً، نبين فيها لجماهير أمتنا المجيدة، أهم الكرامات التي أيد الله بها المجاهدين الأبرار في غزّة المجاهدة . . . !
ثانياً : استخدام المقاومة المجاهدة تكتيكات عسكرية أذهلت الأعداء، ودوّخت قياداتهم، وأحبطت مخططاتهم، وأفشلت هجماتهم . . ويجب أن نسجل هنا : الأهمية العظيمة التي تجلت من الوحدة والتنسيق الرائع بين جميع فصائل المقاومة المجاهدة، كما نسجل الدور الرائد الذي لعبه أبطال القسام الصناديد وإن ننس، فلن ننس، ألق القادة والعلماء العاملين، والدعاة المجاهدين، الذين وقفوا كالأسود الكواسر في طليعة المجاهدين ، متمنطقين بأحزمتهم الناسفة، يقاتلون، ويحرّضون المؤمنين على القتال، ويشدون من أزر الأبطال، ولسان حالهم يخاطب أقرانهم : فيقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا . . . لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب خدّه بدموعه . . . فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
هؤلاء ، والله، هم العلماء، وهم الفقهاء، وهم العبّاد . . . نعم ، هم العبّاد . . . فلقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((موقف ساعة في سبيل الله (أي في الجهاد) ، خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود)) .
كما يجب أن نسجل بأعلى درجات الفخر والاعتزاز بأن صواريخ المقاومة التي كانت توصف بالعبثية ، دكت الكيان الصهيوني وزلزلت أركانه ، وأدخلت الرعب إلى كل بيت فيه ، وخاصة بعد تدمير مصنع البتروكيماويات ، ولم تتوقف طيلة فترة العدوان وحتى بعد أن أوقف العدو إطلاق النار من جانب واحد ، بل كانت تنطلق من بين دبابات العدو ومن تحت طائراته ، دون أن يتمكن العدوّ من تدمير منصة صواريخ واحدة.
ثالثاً : تكبيد العدو خسائر فادحة :
لقد كبد المجاهدون العمالقة في غزّة المقدّسة من الخسائر البشرية والمادية، ما لو أتيح للشعب الصهيوني أن يطّلع عليها كما هي ، لأسقط مجرمي الحرب (أولمرت ولفني وباراك) وسحلهم في الشوارع ...
ولذلك فقد مارست الماكنة الإعلامية الصهيونية تعتيماً رهيباً على مجريات المنازلة ، فمنعت الصحفيين المحايدين من تغطيتها ...
لقد قالوا في البداية عن غزّة : (جحر فئران) وسنسحقهم في ثلاثة أيام ! ، خسئوا ...!!!
فلما نطحوا صخرة فلسطين العملاقة، فكسرت قرونهم، وأدمت رؤوسهم، غيروا !لهجتهم، وأضافوا للمهلة التي قطعوها لأسيادهم بضعة أيام أخرى . . ولكنهم فوجئوا بكتائب من المجاهدين العمالقة، تزول الجبال ولا تتزحزح، فاعترف قادتهم العسكريون وأنصفوا المقاومة وقالوا الحقيقة : (نحن أمام مقاومة ! عنيدة ومنظمة)