أمريكا، هذه الأمة العظيمة
أمريكا، هذه الأمة العظيمة
جان كورد
نعم، إنها عظيمة...هذه الأمة التي تكونت من مزيد عجيب من سائر القوميات والأديان والأعراق، اضافة إلى أقلية ضئيلة من شعوبها القديمة التي تعرّضت إلى الابادة والاجتثاث بقدوم العرق الأبيض من أوروبا إليها، بحثا عن الذهب والعبيد والثروات الحيوانية والطبيعية الأخرى...
وعظمة أمريكا تكمن في أن لا أحد يستطيع الادعاء بأنها وطن قومية معينة أو دين دون آخر، أو ثقافة غير الثقافات الأخرى...وعلى الرغم من أن سيادة العرق الأبيض لاتزال راسخة إلى حد ما في هذه البلاد الواسعة التي تتألف من 52 ولاية لكل منها دستور وبرلمان وحكومة، إلا أن انتصار الرجل الأسود من أصول أفريقية في انتخابات الرئاسة الأمريكية يثبت بما لايدع الشك بأن سيادة العرق الأبيض قد خفّت ولم تعد هناك أمريكا بيضاء تحكم أخرى سوداء...
لقد رأينا بأم أعيننا يوم حشر مصغّر أثناء أداء السيد باراك حسين أوباما القسم كأول رئيس أمريكي من العرق الأسود، ورأينا الدموع في عيون كثيرين منهم، فرحا واستبشارا بمرحلة جديدة في تأريخ هذه الأمة العظيمة...وهل يمكن أن يتجاهل عاقل كيف تنتقل السلطة في هذه الأمة من رئيس إلى رئيس، في سلام ووئام واحترام متبادل؟
أقول إن أمريكا أمة عظيمة لأنها تتعلّم بسرعة مذهلة من تجاربها، إذ تعلمت بصعود زعيمها الكبير ابراهام لينكولن كيف تنهي عصر العبودية، وتعلمت باغتيال رئيسها الشهير جون ف كينيدي كيف تهتدي إلى المجرمين الكبار في مراكز القوّة وتشير إليها بالبنان، وتعلمت باغتيال الناشط الأسود من أجل الحرية والمساوة مارتن لوثر كينغ كيف تقاوم فلول العنصرية، وأخيرا تعلّمت من انتهاء عهد "النيوكون"، عهد 11/9 وجورج دبليو بوش وديك تشيني ورامسفيلد وغوانتانامو، المليء بالأخطاء الجسام، كيف تدفع بسفينتها في اتجاه "التغيير"، وتنتخب من يؤمن بأن عظمة أمريكا في قيمها الديموقراطية وفي ايمانها بالحرية والمساواة بين مختلف الأعراق والأجناس والأديان، وليس في سياط حراس غوانتانامو وجنود المارينيز وحاملات الطائرات...
لقد رأينا كيف وقف رؤساء سابقون ووزراء سابقون وقواد جيوش سابقين، وراء وحول رئيسهم الشاب الجديد يباركونه ويعانقونه، حتى أعداءه ومنافسوه في السباق من أجل السلطة، وهو يكرّر نص القسم مفتخرا باسمه (باراك حسين أوباما)، حيث لم يستخدم المختصر الحرفي "الاتش" كما هو العادة، عوضا عن اسم أبيه المسلم بل "حسين" الذي يبدو غريبا تماما في بلاد غالبيتها العظمى من المسيحيين... وهنا تكمن عظمة هذه الأمة التي لاتضع قيودا على أصل أو دين أو لون من يتولى قيادتها ورئاستها، في حين نرى أن الدستور الايراني بعد نجاح الثورة الخمينية ينص حرفيا على أن يكون رئيس الجمهورية من المذهب الشيعي "الاثني عشري" دون غيره من مذاهب المسلمين، والدستور السوري ينص على أن يكون رئيس الجمهورية عربيا مسلما وليس من القوميات أو الأديان الأخرى...
الأمريكيون لم يستخدموا الدبابات والطائرات لاخراج أشد الزعامات تطرّفا وتعلّقا بالقوّة (النيوكون) من البيت الأبيض، كما يجري باستمرار في معظم دول العالم الثالث، بل لّملم الرئيس الذي انتهت ولايته أغراضه وأشياءه الخاصة، قبل أن يدخل الساكن الجديد البيت الذي تم تنظيفه وترتيبه بشكل كامل لاستقبال باراك حسين أوباما وزوجته وطفليه، في حين عاد الرئيس السابق إلى ولايته (تكساس) التي أحبها دائما، ورافقه الرئيس الجديد حتى صعوده إلى الطائرة، وهما مبتسمان، دون أن يظهر أي منهما امتعاضه من الآخر أمام الملايين الكثيرة التي تراقبهما عن كثب أو عبر شاشات التلفاز...ويجدر بالذكر أن الرئيس الأسبق الذي كان يبدو جاهلا في أعين الكثيرين قد قرأ في الثلاث سنوات الأخيرة من عهده (186) كتابا في التاريخ والسياسة والدين وبقية المعارف الانسانية، في حين نرى الكثيرين من رؤساء بلداننا الجائعة المرهقة الفقيرة المهانة الذين منهم من لايجيد الخطاب المعّد له في المؤتمرات، يسحلون في الشوارع بعد قتلهم أو تتدلى أجسادهم من حبال المشانق أو يهربون ليختفوا في سفارات دول أجنبية أو تنتقل السلطة منهم إلى أبنائهم أو اخوتهم في حال بقائهم في السلطة حتى الرمق الأخير، وكأنهم يحكمون ملكيات عريقة وليس جمهوريات فتية...أفليست أمريكا عظيمة في هذا الشأن؟
إن مجرّد تخلّي السيدة هيلاري كلينتون عن السباق من أجل الرئاسة والعمل بعد ذلك كمؤيدة لباراك حسين أوباما هو أمر عظيم، ومن ثم اختيارها من قبل غريمها السابق أوباما كوزيرة للخارجية، وهي حقيبة هامة للغاية في أمريكا، أعظم...وإن حضور السيد جون ماكين، المرشح الجمهوري، إلى حفل أداء القسم للرجل الذي نافسه في الانتخابات، أمر عظيم أيضا...فهل تستطيع زعاماتنا قبول معارضاتها بهذا الشكل واحترامها والتودد إليها؟... وإن الذي تابع في ذلك الاحتفال الكبير نظرات وابتسامات السياسي الأبيض العجوز جو بايدن، وهو يقبل بأن يصبح نائبا لشاب أسود، لابد وأن يعترف بأن أمريكا أمة عظيمة... طبعا، هذا لايعني أننا راضون عن سياسات أمريكا تجاه شرقنا الأوسط، ومنها فلسطين، والعديد من الدول الآسيوية، ومنها أفغانستان وباكستان وايران، وكذلك صوب العديد من دول أمريكا اللاتينية والجنوبية، ومنها كوبا وفنزويلا وبوليفيا وغيرها...ولكن يجب أن لايؤدي بنا إلى انكار عظمة الأمة الأمريكية في التعامل مع نفسها ومع ادارتها، حيث تقوم بذاتها بتغييرها دستوريا وسلميا وفي أجواء حضارية للغاية، دون اكراه أو عنف...وهذا ما نفتقر إليه في بلادنا...وهنا نلاحظ الفارق الجسيم بيننا وبين الأمريكيين الأحرار...
السياسة الأمريكية ستتغيّر إلى حد ما في ظل رئاسة باراك حسين أوباما بالتأكيد، ولكن المصالح الاسترايجية لأمة قوّية بهذا الشكل لن تخضع لما نريده نحن الصغار، وانما يمكن التأثير فيها من قبل الأمم القوية الأخرى، وفي مقدمتها الصين العملاقة وروسيا الواسعة وأوروبا المتحدة...واذا كنّا في شرقنا الأوسط نريد التأثير أيضا في السياسة الخارجية الأمريكية فما علينا إلا البدء بالتغيير في أنفسنا، وذلك بأن نستطيع أيضا اجراء التبادل السلمي للسلطة دون دبابات ومعتقلات ارهابية وتحريفات دستورية بعكس ما تريده شعوبنا...علينا أن نبني وحدتنا كأمة كبيرة تحترم كل مكوناتها الاثنية والدينية، وتقوم على المبدأ العظيم "العدل أساس الملك"، وأن نبادر إلى التخلّص من الحدود الجمركية والأسلاك الشائكة وحقول الألغام بين بلدان الشرق الأوسط، وأن نعطي كل ذي حق حقه، ونتخلى بأنفسنا عن الأفكار العنصرية والهمجية المتخلفة واحتقار الآخرين، وقبل كل شيء علينا أن ندع جانبنا فكرة "الأمة السائدة التي يحق لها أن تذيب بينها سائر القوميات الأخرى لمجرّد أنها تمتلك الرسالة الخالدة..."