المفاجآت

صلاح حميدة

[email protected]

كلمة (مفاجأة) تعبر عن المخفي واللا متوقع، يفاجىء الناس بعضهم بالهدايا في المناسبات، ويفاجىء التجار والشركات المستهلكين بالنوعيات والجودة الانتاجية وتخفيض الأسعار، ولكن هناك مفاجآت غير سارة تخبأ للناس والحكومات والجماعات والجيوش  من خصومهم وأعدائهم.

إستخدم الأمين العام لحزب الله اللبناني مصطلح ( المفاجآت) في حرب تموز2006م، وكان بذلك يتوعد الجيش الاسرائيلي بما خبأت له المقاومة عندما يدخل   أرض لبنان، فالسماء للعدو، والأرض لأهلها - كما قال -.

 قبل( معركة الفرقان) في قطاع غزة، توعدت المقاومة الفلسطينية جيش الاحتلال ب(المفاجآت) إن داست قدمه أرض غزة، وجاء العدوان على غزة، وخاضت المقاومة الفلسطينية معه حرباً ضروساً، ركز فيها الاحتلال ضرباته على المدنيين، فيما تجنب خوض القتال مع المقاومين وجهاً لوجه، وكان ذلك يوحي بشكل جلي إلى خوف جيش الاحتلال من الوقوع في شراك المقاومة الفلسطينية مثلما أوقع نفسه في شراك المقاومة اللبنانية سابقاً.

 تفاجأ أغلب  المراقبين، بأن كل التدريبات التي أعلن عنها وزير الحرب الاسرائيلي، والتي كان يقول بتركيزها على الحرب البرية وقوات النخبة، ما هي إلا فقاعات هوائية، فقد كان واضحاً الخوف الشديد من القتال المباشر مع رجال المقاومة الفلسطينية، وهو ما أضحك قادة المقاومة اللبنانية كثيراً، من كثرة ما  كان يتوعدهم  به باراك وأشكنازي من بأس الخمس فرق البرية المقاتلة، التي لم تستطع التقدم أمتاراً في حي الزيتون في غزة، و دلل هذا السلوك على قضيتين هامتين:-

1-أن الاحتلال سيعتمد في أي مواجهة مع العرب على ما يسميه( عقيدة الضاحية) أي إستهداف المدنيين أفراداً وممتلكات بشكل همجي، مما سيجعل المقاومين يركزون على تكثيف إستعداداتهم لتكون قوتهم النارية والتدميرية هائلة على الجبهة الصهيونية الداخلية في الحروب القادمة.

2- أثبتت (معركة الفرقان) أن ما تم من إلقاء للوم على محمد دحلان لفشله في القضاء على حماس ليس له ما يبرره، وهو ما منحه الحجة ليقول:-

( إذا كانت قوات النخبة في جيش إسرائيل فشلت في القضاء على حماس، فهل كنا سنستطيع نحن ذلك؟).

بالرغم من تهكم البعض وسؤالهم عن مفاجآت المقاومة الفلسطينية، إلا أن أهم المفاجآت كانت بالمقاتلين أنفسهم، فلم يعهد فلسطينياً على المقاومة الفلسطينية مقاتلتها الاحتلال بحرفية وبعيداً عن الاستعراض، و(الطخطخة العشوائية)وقدرتها على القيادة والسيطرة على كل الأجنحة والتشكيلات المقاتلة والتنسيق بينها،  وكان هذا لافتاً جداً وأثار إعجاب الباحثين والمؤرخين لتاريخ المقاومة الفلسطينية، وخاصة الباحثين (صالح عبد الجواد و عبد الستار قاسم).

كان من الواضح أن المقاومة تميزت بالتكتم الشديد، مما حرم الاحتلال من الكثير من المعلومات الاستخبارية، والتي مكنت المقاومة من استخدام مضادات دروع لأول مرة لم تكن مستخدمة قبلاً( بي29، تانديم) يضاف إليها الادارة الجيدة لإطلاق الصواريخ على المدن والمعسكرات الصهيوينة.

فاجأت المقاومة الفلسطينية كل المخططين الاستراتيجيين في العالم، بقدرتها على الصمود أمام أقسى حصار في العالم، وقدرتها على الصمود أمام أبشع حرب همجية لرابع أكبر جيش في العالم، في منطقة محاصرة براً وبحراً وجواً، صغيرة المساحة، منبسطة وساقطة عسكرياً بالمنظور العسكري والاستراتيجي، وهي تتميز عن حرب تموز 2006م بأنها تتم بدون حليف إستراتيجي يحمي ظهر المقاومة ويدعمها.

من أهم المفاجآت أيضاً كان التنسيق العالي، سياسياً وميدانياً، بين أهم قطبين للمقاومة الفلسطينية( حماس والجهاد الاسلامي) وبينت (معركة الفرقان) والتصريحات المتقدمة لرمضان عبد الله شلح( الأمين العام للجهاد الاسلامي) أن تحالفاً استراتيجياً قد نشأ على الساحة الفلسطينية، من المهم أن يبنى عليه، ويضم كافة التشكيلات المقاومة على الساحة الفلسطينية. 

أحسنت المقاومة إدارة المعركة الاعلامية، فلم يتوقف بث إذاعات وتلفزيونات وفضائية المقاومة طوال فترة الحرب، يضاف إليه قدرة المقاومة على اختراق التلفزيونات والاذاعات الصهيونية وبث وصلات دعائية للمقاومة، لتحطيم الروح المعنوية للمجتمع الصهيوني.

فاجأت (معركة الفرقان) جميع المراقبين، بأن حركة فتح لم يصادر سلاحها  - كما كان يقول قادتها - وكان جلياً ظهور تشكيلاتها المتعددة (أبو الريش، المجاهدين، أيمن جودة، عماد مغنية)، وكان واضحاً أنه لا أحد يمنعهم من رفع راياتهم، وقد كنت شخصياً  بدأت أصدق بعضاً من هذه الأقاويل، إلا أن ما شاهده العالم على الفضائيات وفي البث المباشر، لم يفاجئهم فقط، بل وضع مصداقية حركة فتح وخطابها الاعلامي على المحك.

استطاعت حكومة المقاومة إدارة قطاع غزة تحت النار، ووزعت الرواتب على الموظفين خلال الحرب، وقامت المؤسسة الأمنية بواجباتها بكل جدارة، كما كان لافتاً قدرة الحكومة على دفع مبالغ مالية تقدر بثلاثة آلاف دولار لكل عائلة تضرر منزلها لتستأجر منزلاً حتى يبنى منزلها من جديد، وغير ذلك من المساعدات.

إستطاعت المقاومة الفلسطينية  الصمود ثلاثة وعشرون يوماً تحت القصف والدمار، ولم تستسلم، ولم ترفع الراية البيضاء،بالرغم من أنها محصورة من كل الجوانب وتتلقى الطعنات من الأشقاء قبل الأعداء، وأفسدت مخططات كل المراهنين على هزيمتها في أربعة أيام، وأجبرتهم على إعادة توضيب شنطهم في الخزانات مجدداً.

كما أن العديد من القوى الدولية بدأت بمراجعة سياساتها ضد حماس، بعد الفشل الذريع في استئصال الحركة والانقلاب على خيارات الشعب الفلسطيني، بعد إطلاق المحافظين الجدد سهمهم الأخير عليها.

فاجأت المقاومة الفلسطينية النظام الرسمي العربي- خاصة الشق المتخاذل منه - فقد تآمر على المقاومة،  ولامها، وحاول ويحاول منعها من أي إنجاز سياسي، مما أجبره على التعاطي ظاهرياً معها، ومحاولة ركوب الموجة، وتجلى ذلك في الخطابات المتكلفة لأركان هذا النظام في قمة الكويت، بعد أن (تبهدلوا) من جماهير الأمة.  

فاجأت المقاومة الفلسطينية  كل المتآمرين عليها، بأن أحيت جماهير  الأمتين  العربية والاسلامية، إضافة لأحرار العالم، وكان لافتاً  الموقف التركي الشعبي والرسمي تجاه العدوان، وعادت قضية  فلسطين إلى مربع الصراع الأول بين المسلمين في العالم أجمع مع أعداء الأمة، وأكثر ما لفت نظري موقف مسلمي البوسنة والهرسك ومقدونيا وكوسوفا، ولمن لا يعلم، فقد كان مئات المقاتلين من هذه المنطقة، يقاتلون في فلسطين بين أعوام 1936م - 1948م، وهذا يظهر أهم تجليات( معركة الفرقان) بإيقاظها  الوعي العربي والاسلامي وأعادت توجيهه إلى قضيته المركزية(قضية فلسطين) وأعادت  القضية إلى بدايتها منذ قيام الدولة العبرية، وأهم ما يدلل على ذلك أيضاً تصرف الاحتلال بنفس المنطق، بأسلوب مجازر دير ياسين بالقتل والهدم والتدمير والتهجير، ولكن ما اختلف في (معركة الفرقان) وفاجأ العدو ومن حالفه، أن تجذر الشعب الفلسطيني لم يتزحزح، بل وضع اللبنة الأولى لاقتلاع هذا الكيان الاغتصابي على أرض فلسطين، وبدأ مرحلة تاريخية جديدة، رمت ما كان يعرف بالهزائم خلفها، ودخلت مرحلة الصمود والانتصارات.