مشاهد غزة الدامية

ريما عبد القادر

غزة- فلسطين

[email protected]

في بداية الأمر لم أجد أي كلمة تناسب ما يحدث في غزة، أو حتى أن أجد ما يناسب أن يكون مقدمة تتحدث عن قطاع غزة المحاصر والدامي، فلا أعلم من أي مشهد أبدأ، هل أبدأ من المشهد الأول لقصف الاحتلال الإسرائيلي لمدينة غزة، المشهد الذي سطر العشرات من الشهداء من رجال الشرطة الفلسطينية المتفحمة أجسادهم، وبكاء الأطفال وهم يركضون بالشوارع لا يعرفون أين يذهبون؟؟! هل يعودون إلى بيوتهم، أو يكملون طريقهم إلى المدرسة حيث الساعة تقترب في عقاربها من موعد امتحان اللغة العربية ؟؟؟. 

صوت الصواريخ كانت كثير ما تقطع الأفكار، والكلمات لتبدأ بمشهد جديد بعد أن تحل مجزرة جديدة، تهدر الكثير من الدماء، الدماء التي اختلطت بتراب أرض غزة، فلم تفرق صواريخ الاحتلال بين طفلة لم تتجاوز الأيام من عمرها، وبين رجل مسن لا تقوى قدميه على حمله.

ما أصعب أن تختار مشهد من بين مئات المشاهد في قطاع غزة الدامية التي تعجز الكلمات على كتابتها، فلازالت صرخات عائلة بعلوشة تدوي في أنحاء غزة، كيف لا ؟! وهي التي فقدت خمس من بناتها في عمر الزهور، وهن يجلسن في غرفتهن الصغيرة، التي تطل شرفة نافذتها الصغيرة على مسجد "عماد عقل" شمال مدينة غزة،( المسجد الذي استباح بصواريخ طائرات الاحتلال الإسرائيلي).

وفي مشهد ليس ببعيد، كان في صرخات الطفلة هدى العرييني،:"أريد أمي ..لا أريدها أن تموت.."، فلم يرحم الاحتلال طفولتها، كما لم يرحم والدتها التي أصابتها صواريخ الاحتلال وهي في منزلها البسيط الذي يغطي سقفه "الاسبست ".

كل لحظة كانت تمر على قطاع غزة، كانت تحمل الكثير من المجازر التي طالت كل شيء في غزة حتى المساجد لم ترحم، والمستشفيات المحاصرة أيضاً لم ترحم، فقد هددت بالقصف كما هددت مئات المنازل بالقصف على أجساد أصحابها.

هذا الأمر جعل ملامح القلق والخوف ترتسم على كل من يسكن قطاع غزة، بعد تواصل مجازر الاحتلال باستخدام أسلحة محرمة دولية إلا أنها يبدو غير محرمة على أطفال، ونساء، وشيوخ، وشباب غزة.

ورغم أن ساعات النهار تكون أطول من ساعات الليل في فصل الشتاء إلا أن سكان غزة يجدون عكس ذلك، حيث أن ساعات الليل طويلة جداً خاصة حينما تتلازم بقطع التيار الكهربائي وحالة الهدوء من كل شيء إلا من صوت صواريخ الاحتلال، فكل مواطن يقول في صوت عالي :"هذا الصاروخ سيسقط على بيت من؟؟"، ويقول بالوقت ذاته:" قد يقع على منزلي".

فكل ليلة كل فرد ينظر إلى أفراد عائلته بنظرات من الوداع فهو لا يعلم هل سيستيقظ مع فجر الصباح، أو يكون من الجثث التي سيتم انتشالها من بين الركام؟؟.

وكلما اجتمعت مع أفراد عائلتي على مائدة الطعام مباشرة، وبدون تفكير أعود في ذاكرتي إلى عائلة "عطا الله" حينما استهدفتها صواريخ الاحتلال قبل شهور وهم يجلسون على مائدة الطعام، وما هي إلا لحظات حتى امتزجت دمائهم بالطعام الأخيرة، وأقول في نفسي "قد يتكرر الأمر معنا، أو مع أي عائلة فلسطينية تعيش في غزة".

كل كلمة كانت تكتب وطائرات الاحتلال لم تكن بعيدة عن سقف منزلي، فكانت صوتها، وصوت صواريخها التي تطلق بشكل متواصل يجعلني أمام خيارين: الخيار الأول هو أن أكمل كتابة المقالة، وأردد الشهادتين، بينما الخيار الثاني هو أن أغلق جهاز الكمبيوتر قبل أن يغلقه قطع التيار الكهربائي الذي قد يكون سببه صاروخ الاحتلال، أو شيء آخر لا أعلمه.

فكان انخفاض وارتفاع طائرات الاحتلال كثير ما يفرق أفكاري، لأعود للبدء من نقطة جديدة تحمل مشهد جديد من مشاهد غزة الدامية، قد يكون المشهد بعيد عن التتابع إلا أن ما يوحده هو استهداف صواريخ الاحتلال له.

وكل صاروخ يطلق يجعلني أردد في داخلي :" اللهم اجعلني أكمل كلمات المقال، التي قد تكون آخر شيء تطبعه أناملي الباردة، التي تحفها شيء من القلق"، فكل ما يحدث في قطاع غزة يجعلني أقول:" يجب أن أفعل شيء رغم أنني أجد نفسي عاجزة أمام مذبحة غزة".

وكنت سأكتب كلمات تجاور كلمة غزة بالعنوان، "لا يطلع عليه إلا الشرفاء"، فخشيت أن يكونوا قلة إلا أن ما رأيته من انتفاضة لدى الشعوب العربية، وغير العربية تندد بجرائم الاحتلال الإسرائيلي جعلني أقول:" لا زالت الدنيا بخير، ولا زال الشرفاء من حولنا، رغم المواقف المتخاذلة من قبل الكثير، خاصة حينما أعلن بأنه سوف يتم عقد قمة يوم الجمعة من أجل قطاع غزة، لا أعلم ما هي الحاجة لهذه القمة؟؟!، هل هي لقراءة سورة الفاتحة أم ماذا ؟؟! فأعداد الشهداء في قطاع غزة حتى لحظة كتابة المقال قد تعدت 385 شهيد، وأكثر من 1700 جريح ".

صوت الصواريخ المتواصلة قطعت الكثير من أفكاري أو بالأصح قطعت الكثير من مشاهد غزة الدامية، فحاولت أن اختم هذه المشاهد التي قد تكون ختمت في كلمات المقالة إلا أنها لم تختم على أرض غزة الدامية.

ورغم المجازر المتواصلة في قطاع غزة والحصار إلا أن ذلك لم يزد غزة إلا صموداً، خاصة أن الشرفاء في غزة يدركون جيداً أن أمامهم أمرين: النصر، أو الشهادة.