صمودُ غزّة وترفُنا وضعفُنا أمام شهواتِنا
هتون سامي فلمبان
لعلّه بلغكم ولعلكم سمعتم ورأيتم المجزرةَ البشعةَ التي ودّعت بها غزةُ عامَنا المنصرم, والتي لم تكنِ الأولى في فظاعتِها بل وتؤذن بالمزيد , أم أنكم عنها غافلون؟
أرخُصت دماء إخواننا علينا وهانت؟
هلموا بنا نكبحُ جماحَ أنفسِنا, هلموا بنا ننتصر على شهواتِنا, على حظورِ نفوسِنا, لنعلن للعالمِ أنّا أمةٌ تحسن الانتصار على شهواتِها, هلموا بنا نردُّ على غزو بضائعِ اليهود والأمريكان العاتي والمستخفِ بنا لأسواقِنا بإحجام كليٍّ عن شراء أصغر صغير إلى أكبر كبير منها, ولن تعدموا البديل وإن كان في جودته أقلّ فسيغدو أقوى وأجود بعد حين بدعمكم.. رغم أنا في موقف لا يسمحُ حتى بأن نفتّش عن بديل.
تعالوا بنا نطهّر بيوتَنا مما يديننا, ألا تدركون أنا نشجع أعداءنا على المضيّ قدم؟ ونشارك بما في جيوبِنا في هذه المجازر؟ صدقوني, لن تموتوا جوعا ولن تفقدوا حيويتكم وإشراقتكم وأناقتكم! فكم من عصور مرّت عاش أهلها بدون هذه البضائع خيرَ حياةٍ وأكرمَها..
على الأقلّ, لا نذهب للعرض على الديّان بلا عمل ولو كان أقلّ القليل, فاجتماعُ الأمة ذات (المليار مسلم) أو غالبِها على هذا سيصيبُ الأعداء بأزمةٍ اقتصادية فوق ما يعانونه علّهم يتعظون.
أما آلمتكم هذه المجازر؟ أتطيقون أن تضعوا في أفواههكم المنعّمة التي اعتادت أن تشتهيَ فتشتري ما ثمنُه رصاصةٌ ذَهَبَ ضحيةً لها طفلٌ بريء, أو شيخٌ عاجزٌ أو أمٌّ سقطت أمام عيني ابنها الصغير؟ فلنتخيّل أنفسَنا مكانهم ف"لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه" هكذا أخبرنا نبيُّنا العظيمُ عليه الصلاةُ والسلام. هل كنتم تعذرون إخوانكم إن قُذفتم بالقنابل وهُدمت بيوتكم فوق رؤوسِكم -لا قدّر الله- وهم يضعون أيديهم بأيدي أعدائكم فيمدونهم بالمال ولو كان فِلسا واحد؟ أثقُ بأن قلوبكم البيضاء ستموجُ حقدا عليهم وقهرا -إلا من رحم ربي-.
هل تدركون ما معنى أن يسقط ما يقاربُ ثلاثمائة شهيد على أرض غزة العظيمة الصامدة وحدها هناك وسط العواصف العاتية التي تحيطُ بها لا يأبهُ لها أحد, تجاهد وتصابرُ بشموخٍ وتعاني وتتألّمُ وترسلُ الأبطالَ للنّضالِ وحده؟ إنه لينبّئُ العالمَ عن عجزنا وعن رُخص دماءِ أبنائنا علينا. تأملوا كيف يثورون هم إن قُتل لهم قتيلٌ واحد فيثأرون له بدناءة.
أليس عارا أيها الأحباب أَنّ إخواننا المؤمنين بالله ورسوله حُرموا الغذاء, ومُنعوا الدواء, وفقدوا الكساء وقُطعت عنهم الكهرباء, وحيل بينهم وبين العون والعلاج , وسُدّت أمامهم المنافذُ والمعابرُ ليئنوا تحت وطأة الحصار, تصمُّ آذانَهم وتزلزلُ قلوبَهم أصواتُ الرصاص ودويُّ القنابل صباحَ مساء, لا تكادُ تفارقُ أعينَهم مناظرُ الدمارِ والدماء, ولا يكادُ يومٌ يمضي دون سقوط شهداء, ونحنُ, نعجز عن مقاومةِ قطعةٍ من طعام أو لباس؟ يشقُّ علينا أن نتخلّى عن شطيرة من (همبرجر) ماقدونالز أو برجر كينج, أو عبوة من (الببسي) ويسيلُ لعابُنا لمرأى بيتزا هت ودومينوز فلا نطيق صبرا عنهما. ولا أنسى الأرز الأمريكيّ المميّز ذا الحبّة السمينة فعدم توفّرِه يخفضُ قيمة الطبخة ويعكّر علينا الاستمتاع بها! تذرفُ إحدانا الدموعَ إن اشتاقَ جسدُها الناعم لصابون (لكس) ويئنُّ شعرها إن لم يلامسْه (بانتين أو هيد آند شولدرز)
والسياراتُ والحواسيبُ اليهودية والأمريكيةُ تبدو في أعينِنا أروع, وإن قاربت غيرَها في جودتِها وأغلبِ مزاياها.وما يضيرُنا أن ينقصَ من جودةِ أطعمتِنا وألبستِنا وسياراتِنا وحواسيبِنا ما لن نفقدَ معه حياتَن؟! فما كلُّ ما اشتهيناهُ ينبغي أن نشتريَه.
ترنُّ في أذني كثيرا كلمةٌ لطفلٍ مصريّ روتها لنا أستاذةٌ من خيرِ من درّسني في الجامعة يقشعرّ لها بدني, لقد سُئل: لمَ لا تشربُ الببسي؟ فأجاب ببراءة وطُهر وعزّة: لأني إذا رأيتُه تخيّلتُ أنّي أشربُ دمَ أخي المسلم.
تغرقنا النعم, يسربلُنا الأمن حتى أنّا نسينا قيمتَه. أطفالُنا يملكون من الألعابِ من كل صنفٍ ولون, لكنّا نرفضُ أن يعوا شيئا عن أحوالِ أمتهم لا يخلُّ بطفولةٍ صحيّة. نبخلُ بالدعاء الصادق, وإن أعجز العجز أن نعجز عن الدعاء. ونكتفي بالمشاهدةِ أو ربما حتى نتجاهل أن نسمع ونرى ونتألّم فنتفاعلَ ونتكلّم! إنا نسيء لإسلامِنا بهذا, إسلامنا الذي يربينا على الاتحااد والتضامن فيما بيننا, لأنّا جسد واحد, وإن اختلفنا في مسائل فرعية لا تمسُّ عقيدتَنا, أو وجهات نظرٍ حول أمور اجتهادية لا تُخِلُّ بثوابتِنا.
لا تنسوا, كلنا مسؤولٌ عما يجري وسيُسألُ عما عَمِل, كلٌّ حسب طاقته, تذكروا أنه ليس من المسلمين من لم يهتم بأمرهم.
تعالوا نعقدُ العزمَ على أن نصلح من أنفسِنا ليصلحَ اللهُ أحوالَنا, وإياكم أن تقولوا أَنّها قضيةُ غزةَ وأهلِها وحدهم وهم المطالبون بالإصلاحِ وحدهم; فإن غزة عضو من جسدِ أمتِنا, أفلا يضرُّ الجسدَ أن يمرضَ عضوٌ من أعضائه؟ والفمُ إن تجرّعَ السمّ تضرّر البدنُ كلُه, وتوقّفَ القلبُ..
فلنقفْ مع أنفسِنا بصدق محاسِبين, مستغفرين تائبين, متسائِلين عما سنقدم, منقّبين عن مكامن الخطأ فيها لنصححه, وعن مواطن الضعف لنحاول تقويته, وعن مكامن القوة فيها لنستثمرها لخدمة أمتِنا وأوطانِنا.
فلنبادر فأرواحُ إخواننا الغاليةُ تُزهقُ ولن تنتظرَنا, ودباباتُ اليهود عطشى لإراقة المزيد من الدماء جائعةً تستهدفُ لحومَ الأبرياء, ولكنها أجبنُ من أَن تقفَ أمام أمةٍ تعدادها مليار, لو اتّحد نصفُها بل ربعُها وتسلّح بالإيمانِ والعلم والقوّة لهزم أمةً يشهدُ تاريخُها الأسود بجبنها, بضعفها وبذلّتِها التي كتبها اللهُ عليها عقابا لها على كفرها وجحودها وإجرامها وقتلِها الأنبياء...
والمشكلةُ ليست في قوة عدونا بل هي في ضعفِنا نحن وتخاذلِنا. قد تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلةُ على قصعتها, حين استعمر حبُّ الدنيا قلوبَنا وأصابَنا الوهن, فلندركْ أنفسَنا وأمتَنا فالخطبُ جلل.
إنّي أتوقُ لفجرٍ يشرقُ على أمتِنا يحملُ في ثناياه الفرجَ بعد ليلِ الألم, ترتفعُ معه راياتُ النصر خفّاقةً, أفلا تتوقون له أنتم أيض؟