الانقلاب

صلاح حميدة

[email protected]

كلمة (انقلاب) تعبر عن قلب الشيء وجعل أسفله أعلاه أوالعكس، وتعبر عن تغير الأحوال وانعكاسها من الأفضل إلى الأسوأ أو عكس ذلك، ويوجد أيام في السنة تعبر عن انقلاب الوقت تنازلياً أو تصاعدياً أو انقلاب المناخ برودة وحرارةً .

على مستوى الحيوانات لا يسمح قائد القطيع أياً كان صنفه،  لقائد آخر بالانقلاب عليه وأخذ مكانه في القيادة، ولا يتنازل إلا بعد أن يشيخ أو يأتي من هو أقدر منه وأكثر شباباً، ولا يترك القطيع له إلا بعد معركة شرسة يذوق فيها الويلات من الضرب والإهانة التي تبعده الى الأبد عن القطيع.

في التاريخ البشري القديم اعتبر انقلاب الأحوال وتغيرها من سمات البشر والحضارات والإمبراطوريات، ولم يسجل تاريخياً أن حضارةً استمرت إلى ما لا نهاية، وكان انقلاب الأحوال يأتي دوماً إما بعوامل داخلية، أو عوامل خارجية، أو الاثنتين معاً، وكان يأخذ هذا التدافع الانساني أشكالاً عدة مثل التنافس بين الإخوة كإبني آدم ،أو التنافس بين القبائل والجماعات والمذاهب المختلفة،  كما حدث في أوروبا والعالم، وقد يأخذ صورة الحرب بين الدول والجماعات وأتباع المذاهب والأديان، على المصالح والسياسات والهيمنة على البلاد وسكانها .

كان لانقلاب الأحوال نتاج الصراع والتدافع أثمان يدفعها عامة الناس وخاصتهم، فقد قتل آلاف الناس ودمرت البيوت والحصون وشرد الآلاف من بني البشر وسجنوا وعذبوا نتاج انقلاب الأحوال، ويشهد التاريخ أن المسلمين في الأندلس تعرضوا لحرب إبادة ولمحاكم التفتيش، وعمل الانقلابيون على  استئصال الإسلام والمسلمين وكل ما يمت لهم بصلة من الأندلس.

 شهد التاريخ أيضاً أنه لم يكن هناك فاتح أرحم من المسلمين؛  فمع أن المسلمين وسعوا حدود دولتهم بالسيف، إلا أنه كان لذلك دوماً قوانين تمنع المسلم من انتهاك حقوق الناس بعد انقلاب الأحوال، وحتى وإن حدثت بعض التجاوزات فقد كانت تواجه بحزم  وتعالج ،كل هذا تجلى في الوصايا المعروفة التي كان يحملها قادة جيش المسلمين حول التصرف مع غيرهم عندما تنقلب الاوضاع لصالح المسلمين.

أما في العصر الحديث ، فقد تميز حكام العرب والمسلمين بالتصاقهم الشديد بكرسي الحكم، لا يغادرونه إلا إلى القبر، أو السجن، ولم يعرف التاريخ العربي الحديث إلا سوار الذهب رئيس السودان الذي تنازل عن الحكم بمحض إرادته ولم ينقلب عليه أحد، وتبعه بذلك رئيس موريتانيا، وتميز العالم العربي والإسلامي بكثرة الانقلابات ، فحدث انقلاب في ليبيا ضد الملكية من قبل معمر القذافي، وانقلب الضباط الأحرار في مصر على الملك فاروق وانقلب الجمهوريون على الملكيين في العراق وسحلوهم في الشوارع، ثم انقلبوا على بعضهم، وسبقت سوريا جميع العرب  بكثرة الانقلابات فيها، ولكن منذ مدة والعالم العربي يشهد نوعاً من الاستقرار بعد موجة الانقلابات التي تمت منذ بدايات القرن الماضي حتى أواسطه، ولم يشب عن الطوق إلا الموريتانيون لحداثة عهدهم بالانقلابات، أما باقي الدول العربية فقد أخذ قادتها العبر من الانقلابات السابقة وهم يعملون على مدار الساعة لسحق أي  معارض أو لعل الأيادي الخفية المحركة لأغلب الانقلابات قد رضيت عن أكثر الموجودين  .

فلسطينياً لم يعش الشعب الفلسطيني كباقي الشعوب العربية والاسلامية في ظل دولة مستقلة  منذ إسقاط الخلافة العثمانية واحتلال فلسطين من البريطانيين، ولم تشهد فلسطين أي مشاركة انتخابية نيابية، أو قيام نوع من المؤسسات السياسية، إلا بعد اتفاقية أوسلو، التي قضت بانشاء هيكلية نيابية وسياسية تحت  الإحتلال، استمرت هذه الهيكلية بالعمل حتى استنفدت أغراضها ووصل الشعب الفلسطيني إلى لحظة الحقيقة، فإما التعايش مع الاحتلال  والاستمرار في مسلسل التنازلات حتى النهاية، وإما الفرملة ودفع الثمن بنقص الأموال والأنفس والثمرات، واختار الشعب الفلسطيني الخيار الثاني، وبذلك قلب الطاولة على الذين جاهدوا من أجل تطويعه وتدجينه خلال عشرات السنين .

سعى الفائزون بثقة  الشعب الفلسطيني  لفرملة مشاريع تصفية القضية وادارة شؤون الناس بنزاهة، ولذلك اعتبر فوزهم بالانتخابات انقلاباً على الخط التنازلي القديم، ووقفت  كافة القوى الدولية والمحلية والإقليمية المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني على إصبع واحدة و اعتبرت أن انقلاباً تم على كل جهودها، وعلى مخططاتها، ولم تعترف هذه الأطراف  بنتيجة الانتخابات، وأن  خيار الشعب الفلسطيني انقلاب على شرعيتها، ولذلك سعت من اليوم الأول لإجهاض هذا الخيار وإفشاله، والعمل على إعادة الانتخابات بأي ثمن وتفصيلها على مقاس تلك الأطراف.

  الطرف الفائز بخيار الشعب كان يدرك جيداً أن تنازله عن الأمانة التي حمله إياها الشعب الفلسطيني والقبول بالانقلاب على نتائج الانتخابات،  هو أم الجرائم، لأن القضية لا تتعلق بكرسي  وزارة ولا نيابة ولا إدارة ، ولكن الأمر يتعلق بحقوق شعب وأمة .

بدأ الصراع بين حاملي خيار الشعب ومن يريدون الانقلاب عليه، وكان هناك عمل حثيث يجري للانقلاب على خيارات الشعب الفلسطيني بكل السبل التي يعرفها الجميع التي تبدأ بالإضراب مروراً بالتشوية الإعلامي ولا تنتهي بالانقلاب والاستئصال العسكري الدموي، بدعم من دول عربية إقليمية وبرعاية أمريكية، وكان الفائزون بخيار الشعب هم أول من أطلق على معسكر الانقلابيين مصطلح التيار الإنقلابي.

سارت الأمور- بحسنها وسيئها -  وتدحرجت إلى النهاية التي وصلنا إليها من الانقسام الحالي، ولكن المفارقة الغريبة أن لفظة الانقلابيين تطلق على من فازوا بالانتخابات، من قبل الأقلية التي هزمت في الإنتخابات، والطريف أن عملاً حثيثاً يتم لإلغاء كافة نتائج الانتخابات الحرة واستبدالها بنماذج معينة بدءاً من الحكومة ووزرائها وانتهاء بالمجالس البلدية المنتخبة؟!.

 ولتفصيل قضية الانقلاب في العرف السياسي والدولي وجب ذكر بعض القضايا لتوضيح ما الذي يجري على الساحة الفلسطينية في الوقت الحالي.

* من المسلمات  أن من يقوم بالانقلاب على الآخر هو الطرف الذي خسر معركة القلوب والعقول،  فالعسكر الجزائريون انقلبوا على الفائزين في الانتخابات بعد أن قال الشعب كلمته واختار الإسلاميين، وما تم في فلسطين كان بعد اختيار الشعب لمن اعتبرهم الأنظف كفاً والأصدق طرحاً والأوضح منهجاً، والأثبت على طريق التضحية والجهاد والتحرير، وبالتالي الأجدر بحمل قضيته.

* يعاني الانقلابيون   وضعاً نفسياً  يجعلهم يعتبرون أنهم بقتلهم وتغييبهم واستئصالهم  لمنافسهم السياسي سيحوزون على حب الشعب وسيظفرون برضاه مرة أخرى، وهم بذلك يوهمون أنفسهم أن الشعب لم يعد يرى من اختارهم لأن الانقلابيين هم وحدهم في الساحة، ولذلك يحرص الانقلابيون على منع أي مظهر من مظاهر وجود الخصم السياسي مهما كانت رمزيتها .

*   لا يمل  الانقلابيون من تكرار الزعم  أنهم الأوصياء على قضايا الشعب، وأنهم هم  أصحاب الرؤيا السليمة الثاقبة والعقل الرزين، وأن من فازوا  بخيار الشعب عديمو المسؤولية،  ومغامرون،  ولا يصلحون لقيادة السفينة الوطنية في ظل الوضع الدولي القائم، وأن الشعب لا زال قاصراً عن معرفة مصالحه ويسعى خلف الشعارات والعواطف، ولم ينضج بعد، ولذلك يعتبرون أن أي حلول للقضايا الوطنية العامة لا يكون إلا من خلال قبول الطرف المنقلب عليه برؤيتهم السياسية بحذافيرها، أي إلغاء خيار الأكثرية لصالح الأقلية المنقلبة عليها بدعم القوى الدولية الاستعمارية.

* يعتبر الطرف القائم بالانقلاب أنه جالب السمن والعسل للشعب، وأن الفائزين بثقة الشعب هم جالبو  الأحزان والحصار والقتل والدمار لشعبهم، وأن طريق المقاومة والتصدي والممانعة لا تجلب سوى الشقاء ، وأن الحل الوحيد هو بالسير خلف الركب الاستعماري، وبرزت هذه  الأطروحات بعد انقلاب الجزائر وانقلاب تزوير نتائج الانتخابات في مصر  .

* يقتضي الانقلاب تمرد أجهزة الأمن في الدولة أو السلطة على القيادة المنتخبة من الشعب وهذا يجد تجسيده في كل الانقلابات في العالم، فلا انقلاب بلا المؤسسة الأمنية في البلد، فطرفا المعادلة في الانقلاب دوماً:( حكومة منتخبة وجهاز أمني متمرد متحالف مع أطراف سياسية متضررة من الوضع الجديد ومتحالفة مع أطراف دولية )، وبهذه القاعدة يمكننا القياس على جميع الانقلابات التي تمت في العالم العربي من المحيط إلى الخليج.

*  تقوم الأجهزة الأمنية بعد انقلابها بملاحقة الفائزين بخيار الشعب هم وأنصارهم،  الذين تقوم باعتقالهم وتعذيبهم كذلك عقاباً لهم على انتخاب من لا تريد، ويأخذ ذلك صوراً متعددة لا يمكن حصرها لكون الانقلابيين يستحدثون العديد من الطرق والأساليب لمعاقبة منافسيهم السياسيين، ويعتبر الضرب ب( الفلقة) من أكثر وسائل التعذيب شيوعاً لكونه أكثر الأساليب اهانةً وقهراً وايلاماً  للمستهدفين، والأقل ظهوراً لآثار التعذيب، ويلبي رغبات الانقلابيين وساديتهم عند سماعهم لصراخ المعذبين.

* يحرص الانقلابيون  على محاولة  نزع الشرعية عن خصومهم السياسيين الذين فازوا بخيار الشعب، فأول ما يقومون به بعد الانقلاب العسكري هو ليّ عنق القوانين، وتعطيل بعضها، وتعليق أخرى،  وسن تشريعات جديدة، وتعزيز سلطة الفرد قائد الانقلاب ومنحه صلاحيات مطلقة، كما يسعى الانقلابيون إلى تفصيل انتخابات على مقاسهم تستبعد كلياً الطرف الفائز في الانتخابات، وطبعاً لا يفوز بها إلا الانقلابيون، وغالباً ما يكون خصمهم السياسي الحائز على ثقة وحب الشعب إما في السجون أو ملاحقاً في أمنه الشخصي والمالي والوظيفي، وفي النهاية يعلن عن فوز الانقلابيين فوزاً ساحقاً وهرب منافسيهم (تغييبهم)، ويدعى المنقلب عليهم لاحترام  خيار تزوير إرادة الشعب؟!.

*  يجد الانقلابيون  من يدعمهم من قوى وأفراد وجماعات  ومؤسسات ورجال أعمال من المتضررين من الخيار الشعبي، فتكون هذه الأطراف هي جيش وأدوات الانقلابيين وسيفهم المسلط على رقاب الشعب وخياره، وتتميز هذه الأطراف بحنقها الشديد وقسوتها على الناس لأنها لا تحظى بأي سند شعبي وتعلم أنها منبوذة من الجماهير، وتسير على قاعدة( عيش يومك).

*  غالباً ما ينسق الطرف الذي يريد الانقلاب على خيار الشعب مع الأطراف الدولية المعادية لخيار شعبه، فنجده يمهد باتصالات مع الأطراف الدولية الفاعلة في العالم كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، ويمتد ذلك إلى تعيين الأبناء خلفاً للآباء في انقلاب واضح على حقوق الشعب وخياراته، حيث نجد المستشارين الأمنيين من أمريكيين وأوروبيين يحكمون ويرسمون مثل  جلوب باشا في زمانه،  وربما أكثر.

*  والأطراف الدولية عادة ما تدعم الانقلابات على خيارات الشعوب لعدة أسباب، من أهمها، الحفاظ على مصالحها الاستعمارية والتي هي في جوهرها معادية لتطلعات الشعوب، ولذلك تدعم الانقلابيين بالمال والسلاح وتغطيهم سياسياً قبل الانقلاب وأثناءه وبعده، وإن فشل انقلابهم تسعى هذه الأطراف لحصار الأطراف الممثلة لخيار الشعب والتي أفشلت الانقلاب مثلما حدث مع كوبا- كاسترو بعد إفشالها انقلاب خليج الخنازير، ومثلما تم مع العراق بعد إجهاض عدة انقلابات، ومثلما حدث في قطاع غزة، ومثلما حدث في فنزويلا عندما أفشل الشعب وبعض القوى العسكرية انقلاباً بدعم أمريكي على هوجو شافيز.

*  تلجأ الأطراف الدولية المعادية لخيار الشعوب إلى التدخل مباشرةً لتقوم بالانقلاب إذا فشل أتباعها وهزموا، وتقوم هي بالانقلاب بقوتها العسكرية وتأتي بأتباعها وتضعهم على كرسي الحك، وتمثل هذا في أفغانستان والعراق والصومال.

*  يتمتع الانقلابيون بدعم إعلامي كبير من المؤسسات التابعة للقوى التي تدعمهم بالمال والسلاح، ويسعون لتكوين جوقة من الإعلاميين بالإغراء أو تحت التهديد،  لتكون بوقاً إعلامياً لهم تسعى لقلب الحقائق وتشويه الطرف المنقلب عليه وتصويره على أنه هو الانقلابي، وأن الانقلابيين هم المنقلب عليهم وأنهم هم الذين يحظون بالشرعية الانتخابية، وتظهر الطرف المنقلب على خيارات الشعب على أنه حامي حمى الديمقراطية، وأن الفائز بخيار الشعب عدو الديمقراطية، وهذا يعكس في جوهره المأزق النفسي الذي يحياه هؤلاء ومحاولاتهم الدائمة إسقاط ما يمارسونه على الفائزين بخيار الشعب ؟!.

*  يتميز الانقلابيون بصفة الفساد الأخلاقي والمالي، فهم أطراف معزولة عن خيارات الشعب، ويدركون أن وجودهم على كرسي الحكم هو رهن بمصالح الأطراف المعادية للشعب، وأن هذه المصالح قد تتغير، وبالتالي  فوجودهم في الحكم مؤقت ( جمعة مشمشية)، ولذلك يسعون لسرقة ما يمكن سرقته من الأموال العامة عبر الاختلاسات والتهريب والتجارة الممنوعة والسمسرة على العطاءات العامة، وفرض الأتاوات على التجار، وفرض الشراكة على المستثمرين، وغيرها الكثير.

تبعاً فإن الانقلابيين، بالرغم مما يظهرونه من سطوة وقسوة ضد خصومهم، هم الأقل رغبة بالتضحية، ولذلك يخوضون البحر بغيرهم،  فيُلقون بأتباعهم في أتون المعارك، ويكونون أول الهاربين بالأموال المسروقة عندما تقع الواقعة تاركين أتباعهم لمصيرهم.

هذه هي أهم سمات الانقلاب والانقلابيين، سيقت لتفسير ما يتم من محاولات التشويه والاستغباء والاستهبال .