وماذا قالوا هُم عن منتظر وحذائيه
نوال السباعي
كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا
لحسن حظي أم لسوء حظي لم أستطع الكتابة عن حدث الأحد الماضي الرابع عشر من كانون الأول إلا بعد مرور أسبوع كان معظم الصحفيين والكتاب والاعلاميين العرب قد قالوا فيه كل مايمكن أن يقال تجاه حدث بمثل هذه الأبعاد ، حدث سيدخل التاريخ شاء من شاء وأبى من أبى ، حدث كان في قسوته بالنسبة للادارة الأمريكية أبلغ من ضرب برجي نيويورك بما تعلق بجرح الكبرياء الاستكبارية لهذه القوة العسكرية الغاشمة ، أقل مايمكن أن يترتب على هذا الحدث أمران ، الأول ارتباط صورة السفاح مجرم الحرب "بوش" وإلى الأبد بحذائي "منتظر الزيادي" ، الصحفي العراقي الذي لم يستطع احتمال كلمات "القاتل" الذي جاء يغني للنصر والسلام وهو الوالغ في الدماء إلى أذنيه في بلد جعل عاليها سافلها بغزو "تدميري" استئصالي متوحش ، جعلوا اسمه "استعمارا" وهو لايمت إلى فعل العمار والبناء بأية صلة ، وأما الأمر الثاني فهو إحداث قفزة نوعية في ايضاح الفرق الجوهري والهائل بين الجهاد المشروع وبين الارهاب الدموي ، جهاد يمكن مزاولته جهارا نهارا عيانا على رؤوس الأشهاد دون إراقة قطرة دم واحدة .
إنه حدث بالغ الأهمية بكل المقاييس ، حدث لايمكن المرور عليه بسهولة ، ولقد شغل العالم كله من أقصاه إلى أقصاه ، ولم يختلف عليه رأيان ولاقلمان خارج العراق ، ولم أسمع أو أقرأ رأيا مخالفا للرأي العام العالمي حول هذه القضية إلا من شخصين اثنين : إحداهما ممثلة عن حزب الشعب المحافظ الذي كان يحكم اسبانية فدخل مع بوش حلف الشيطان لدك بلاد البترول و"قمع الارهاب الذي يهدد قيم الحضارة الغربية"! ، وثانيهما مفكر اسلامي بارز وكاتب مرموق قلب ظهر المجن في مقال له لصالح بوش والغزو الأمريكي للعراق ، والذي "استطاع هذا الصحفي في ظله – كما قال- أن يتجرأ على القيام بمثل هذا العمل" ، بل لقد أعاد الأمر جملة وتفصيلا إلى نظرية المؤامرة التي طالما حاربها بشدة ودأب .
التفكير الطويل في هذا المقال الذي أحترم كاتبه عميق الاحترام دعاني لاستقصاء ردود أفعال بعض وسائل الاعلام الاسبانية الرئيسية على الحدث الذي سُمي هنا في اسبانية بالاجماع " صرمة في وجه بوش" ، بحثا عما يمكن أن يعتبره البعض همجية "العرب" و"غوغائيتهم" في المبالغة في ردود أفعالهم !!.
إحدى عارضات الأزياء – وعارضات الأزياء في اسبانية يعتبرن من صانعات الرأي وممثلات عن شريحة الشباب- في القناة الاولى الرسمية قالت وبالحرف: "كم هو مؤسف أن ذلك الحذاء لم يكن ذا كعب عال ولم يتم غرس ذلك الكعب في عين هذا المجرم" !، في القناة الخامسة المحسوبة على الاشتراكيين قالت مديرة أهم برنامج شعبي حواري في القناة : "المشكلة كانت في أن الصحفي العراقي لم يكن ينتعل أربعة أحذية "!! ، في القناة السادسة وفي أكثر البرامج المنوعة المسائية متابعة جماهيرية ، قال مقدم البرنامج : " علمنا أنه قد يتم سجن "منتظر" 15 عاما ، ونحن نتساءل : من أجل رمية حذاء في وجه مجرم حرب يسجن الناس 15 عاما ، فماذا يجب أن تكون عقوبة غزو بلدين وتدميرهما بالكامل بالشكل الذي رأيناه في كل من العراق وأفغانستان؟" !.
ومن التلفزيون إلى الصحافة وأهل الفكر ممن يقودون الرأي العام بأقلامهم ، كتب "خوسه بيرز ثيربانتس" في صحيفة الباييس وتحت عنوان " الرمز في ذلك الحذاء" : لايمكن لأحد يؤمن بالحوار بين الديمقراطيين أن يتفق مع الصحفي العراقي الذي رمى بوش بحذائه ودعاه "بالكلب" ، ولكننا يمكن أن نتفهم هذا الفعل باعتباره برهان رفضٍ لسياسات الرجل في ذلك البلد" ، و" ودون أن نصفق لهذا الفعل يمكننا إدراك عمق أبعاده ، ذلك أن ماقام به الصحفي يمثل أبلغ أنواع الاحتقار في الثقافة العربية " ، و" لاينقص الشعب العراقي الذي دُكت أرضه وأسيئت معاملته ، لاتنقصه الأسباب الكافية لكي يطفح هذا الشعور بين مواطنيه " ، ويضيف الرجل : " لطالما أعطانا بوش نحن أصحاب الكلمة والقلم أسبابا كافية كذلك لرشقه بالأحذية ولو كان ذلك ويوميا من خلال كلماتنا " .
ومن الباييس إلى الموندو ثاني كبرى الصحف الاسبانية والمحسوبة على يمين الوسط ، نقرأ ل"مونيكا برييتو" وتحت عنوان "هجوم الحذاء" : " إنه العملية الهجومية الوحيدة التي استطاعت أن تنتزع ضحكات العزة من العراقيين في زمن الدموع والموت في العراق " ، " إنها عملية غير مؤلمة فيزيائيا ، وغير متعادلة على الاطلاق مع عملية بحجم عدوان الآخر على العراق ، لقد كانت هجوماً عادلا وإن جاء في صورة انتقام هزلي".
في موقع "كاوس إن لاريد " – فوضى في الشبكة- كتب "ادغار رويث " يقول : "إن رمي بوش بالحذاء لم يخرج عن كونه عملية مقاومة وطنية مدنية ضد مخلوق جاء العراقيين باسماً بعد أن دمر بلادهم ليقول لهم : لقد كان خطأ استخباراتيا!" .
أما صحيفة البانغوارديا الكاتالانية أهم الصحف الاسبانية وأكثرها اتزانا ، فلقد نشرت ل"بيلار راؤولا" مقالا قالت فيه : " إن العمل البطولي الذي قام به الزيادي كان الرد الرمزي البتار الذي سدد للادارة الأمريكية طعنة فاصلة قاطعة نهائية تعبر عن حجم الغيظ الجماعي المكتوم في صدور العراقيين " ، " لن أتفق إطلاقا مع أي نوع من أنواع العنف كائنا ماكان ، لكنني لاأستطيع إلا أن أتعاطف مع حذائَيّ الزيادي اللذين تلقاهما بوش أثناء ندوة كان العالم كله يشاهدها".
مثل هذه الأقوال تنتشر في طول الشبكة وعرضها ، وتتداولها وسائل الاعلام الاسبانية كما الأوربية وذلك على الرغم من الطلبات التي تقدمت بها سفارات الولايات المتحدة للجميع بوقف بث مشاهد الحادثة ! ، لاأحد في العالم يمكنه أن يرى الحق إلا حقا إذا اتخذ هذا الحق طريقا سليمة للتعبير عن نفسه ، كل الأحرار في الأرض تعاطفوا مع حذائَيّ الزيادي ، ووقفوا منه وقفة شريفة تتفهم الفعل على أنه رمية شعب بيد صحفي ملّ الكلمات التي تضيع يوميا منا نحن الصحفيون ولانعلم أين تقع ، فقام بعمل لايمكن لأي إنسان شجاع في ذلك الموقف إلا أن يقوم به ، وهو الرد على "قبلة الغباء والنفاق" التي جاء بوش يطبعها على ضمير العراقيين في وداعه لهم ! ، مسكين "بوش" هذا ، مسكين لأنه نسج الكذبة بيديه ثم صدقها ، واعتقد أن البلاد يمكن أن تتحرر بالدعاوى العريضة والقنابل الذكية واغتصاب الناس في "أبو غريب"! ، لقد ظن الرجل أن عربيا واحدا أو مسلما واحدا على ظهر هذه الأرض يمكنه أن ينسى مشاهد أبو غريب ، أو فظائع غوانتانامو ، أو مشاهد ذلك الدمار الهائل الذي بدأ به " إعادة تعمير" العراق !!، لقد اغتصبونا جميعا في أبو غريب ، وانتهكوا حرمتنا جميعا في غوانتانامو ، ودمروا في نفوسنا الايمان بأن الغرب يمكنه أن يقوم بحركة واحدة في الاتجاه الصحيح في بلادنا مادامت أرض بلادنا تحتوي على قطرة بترول واحدة !!.
وماذا بعد ؟ هل سيصدرون حكما باعتقال "الديمقراطية الأمريكية" التي تفضل بها بوش علينا في العراق فلم تأتنا إلا بالمهانة والذل والشعور بالقهر؟!! ، سيمنعون الصحفيين من الدخول إلى المؤتمرات الصحفية بأحذيتهم !؟ وماذا سيمنعون بعد الأحذية ؟ الأقلام ، الأوراق ؟ الدفاتر ؟ ساعات اليد ؟ وكلها –كما يبدو- يمكن أن تصبح أسلحة دمار شامل في مؤتمر صحفي يراه العالم في بث مباشر، حيث تمتلك تلك الأدوات القدرة الكافية واللازمة لفضح أي طاغوت مستكبر والرد على الإهانة بإهانة بسيطة لكنها رنانة ؟!، أم أنهم سيُدخلون الصحفيين عراة ليجلسوا أمام مجرمي الحرب ساكنيين صما بكما عميا لايحركون ساكنا في مواجهة كل هذ الحجم من الكذب والنفاق والاستهتار بمشاعر الشعوب وكرامتها وقدرتها على الاحتمال ، لا تتعلق المسألة بالديمقراطية التي تُمنح على ظهور الدبابات ، ولكنها وبصورة رئيسية مرتبطة مباشرة بقدرة الشعوب على التعبير عن نفسها في المكان المناسب والزمان المناسب وبالطريقة المناسبة.