الحذاءُ .. سلاحُ دمارٍ شاملٍ
د.محمد سالم سعد الله
عميد كلية اللغات / جامعة المدينة العالمية
ماليزيا
لله تعالى في خلقه شؤون، وله في كونه سنن ومتون، شقي من غفل عنها، وسعيد من اتعظ بها، والعاقل من عرف وتأمل، والغافل من فرّط وأهمل وأجَّل، كل شيء يجري بإذن الله عزّ وجلّ بمستقر، ولا هروب منه إلا إليه ولا مفر.
قد تتعدد ضروب طغيان البشر وتتنوع، وقد تزداد بهيمية الإنسان عندما ينسى ربه، ويبتعد عن القيم السلوكية التي تنماز بها الإنسانية، وإذا حصل هذا التفريط فسيبدأ مسلسل الدماء، وتدور طاحونة الظلم والجبروت، ولو تحلى الإنسان بالعظات من تاريخ سطر لنا تجاربه ودروسه لما آل به الدرب إلى الظلم والطغيان، لكنها غفلة الإنسان.
وتخبرنا سنن التأريخ أن الطغيان لا يدوم، وأن الجبروت حتما يزول، وأن الشعوب على اختلاف مداراتها وتنوع مستويات معيشتها وسلوكياتها وثقافتها ومركزها الحضاري، تبتكر لها ضروبا من المجابهة ومقاومة الطغيان مهما كان عنيفا أو فتاكا أو دمويا.
وتقدم لنا سنن الكون أيضاً طرائق المواجهة والمقاومة التي تكون أشد نجاعة وإصراراً من أسلحة الظلم والطغيان، لأن هذه المقاومة ـ وببساطة ـ تتحلى بعدالة القضية، ونبل الموقف، وشجاعة المواجهة، وتسعى جاهدة للتخلص من هذا الطغيان أو ـ على الأقل ـ هزّ أركانه وإذلاله وازدرائه وتسفيه قوته وتحطيم أسطورة عظمته.
وفي هذا السياق حملت صور التأريخ ومشاهده نقاطا حية في النفوس، خالدة في صفحات الدروس، صوراً تمدّنا بالعزيمة والإصرار، وتشعل فينا الرغبة والحماسة في الاستمرار، إنه نهج الأولين، وطريق الثائرين، ومسار لمن اتقن صناعة البدائل، ومنار لمن سعى لصياغة المآثر.
ويطالعنا التأريخ الماضي والحاضر بمشاهد ستبقى في الذاكرة الإنسانية لأنها تمثيل حيّ لإصرار الفرد على المجابهة واسترداد الحقّ، ومن تلك المشاهد استخدام ما تيسر من أدوات (بسيطة) للمجابهة لكنها ذات معانٍ بليغة، ووقع ذي فاعلية في الموقف والسياق الذي قدّمت فيه، ومن تلك الأدوات البليغة التي استخدمت في المجابهة (الحذاء) !! .
ومن أهم المواقف التأريخية التي عُرضت فيه هذه الأداة ما يأتي:
1. مع النمرود حاكم نينوى: إذ كانت حصة هذا الطاغية الضرب ـ كلّ يوم ـ بالحذاء من لدن خادمه إلى أن مات، بسبب دخول بعوضة إلى رأسه.
2. مع الأمم المتحدة في نيويورك: إذ استخدم رئيس الاتحاد السوفيتي السابق (خروتشوف) في منتصف القرن العشرين ـ تقريبا ـ وفي الزيارة الأولى له إلى أمريكا، حذاءه ووضعه على منصة الأمم المتحدة وقال هذه رسالة صامتة لأمريكا.
3. مع بوش في بغداد : إذ رشق الصحفي العراقي (منتصر الزيدي) بحذائه رئيس أعظم دولة في العالم في بدايات القرن الحادي والعشرين، ونعته بـ(الكلب).
ونظرة بنيوية لهذه المواقف تبين لنا أن لأمريكا قصة متكررة مع الأحذية، إذ يظهر جلياً أنها دواء فاعل لجبروتها وعلاج مجرب لوقف طغيانها، ويظهر أيضاً أن الحذاء غدا سلاحاً فتاكاً لكسر الطغيان ولاثبات الوجود وقهر الظلم، بل تحول الحذاء إلى سلاح دمار شامل تفوق قدرته السياقية الآنية قدرة المدافع والصواريخ، لأنه موجه لمن ظن أن قدرته لا يطالها الآخرون.
إن ما فعله الصحفي العراقي الشجاع هو دليل على موقف شعبي رافض إلى حدّ الاختناق من ممارسات الاحتلال وأذنابه، لقد عمدوا إلى تدمير قدرة البلد من كل النواحي، وتمادوا في تسليمه إلى بعض دول الجوار الطامعة والبغيضة، وهجروا أهله، وقتلوا علماءه، واغتالوا عقوله المفكرة، وعطلوا نبعه المتدفق، وخربوا نهج قيمه الأصيلة، وشوهوا ديوان إرثه وثقافته ومنجزاته .. إنهم مجرمو حرب، ووحوش برايا، لكن بثوب إنساني مصطنع.
نعلم يقيناً أن الأحذية ـ القوندرة حسب اللغة العراقية الدراجة ـ التي أكلها بوش ـ بالعافية والزقوم ـ في بغداد أثناء توقيع الاتفاقية الأمنية، هي سلاح فتاك هزّ هيبة أمريكا المتآكلة، وكسر أنف الاحتلال البغيض، وأخاف الأذناب وخلخل كراسيهم العفنة، وأعاد الفرح للعراقيين ـ الذي لا يقدر بثمن ولا يمكن وصفه ـ لقد نزل العراقيون سنة وشيعة إلى الشوارع مطالبين بالإفراح عن هذا الصحفي البطل، وأقبل الناس بفرح وسرور معلنين أن هذا اليوم هو يوم عيدهم، وأخذوا يوزعون الحلوى فيما بينهم، وبعضهم أقام الولائم والعزائم بهذه المناسبة، ولو كنت مسؤولا لجعلت هذا اليوم هو اليوم الوطني للعراق.
وفي الختام أقول: مبروك للولايات المتحدة الأمريكية فقد اكتشفت أخيراً أسلحة الدمار الشامل العراقية، إنها الأحذية بكل بساطة .. !!.