يد الإمام الجريحة
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
هذا
العنوان مستوحى من عنوان مقال للكاتبة الصهيونية الشهيرة " سيمدار بيراى " ، مراسلة
" يديعوت أحرونوت " للشئون العربية ، وهى ذات صلة وثيقة بمصادر صنع القرار
والمثقفين الموالين للغرب فى بلادنا ، وقد حللت في مقالها ردود الأفعال العربية على
مصافحة الإمام الأكبر للسفاح النازي اليهودي شيمون بريز ، رئيس الكيان الغاصب في
فلسطين المحتلة في أثناء مؤتمر الأمم المتحدة لما يُسمى حوار الأديان !
تفسر المراسلة الصهيونية ما سمته بالهجوم الكاسح على شيخ الأزهر بسبب المصافحة ،
بأنه يرمى إلى ردع كل من يحاول إظهار ولو ذرة من التطبيع مع العدوّ الصهيوني !
وتربط ذلك بالإعلانات التي تروج لما يُسمى المبادرة العربية للسلام في وسائل
الإعلام الصهيونية ، وتتساءل عما يحصل بعد مصافحة واحدة بريئة !
كانت الصحفية الصهيونية قد لفتت الأنظار إلى ما جرى لنجيب محفوظ بسبب تأييده الظاهر
للسلام ، والممثل السينمائي عمرو واكد الذي استدعى لنقابة الممثلين ثم استجوابه
بسبب ظهور مشترك مع ممثلين صهاينة ! وتعلن المذكورة عن خيبة أملها لأن أحداً في
مكتب الرئيس ووزارة الخارجية ، ووزارة الأديان (!) لم يخرج لوقف الهجوم اللاذع الذي
يجبر " المجرم " – حسب تعبيرها – على الامتناع عن الظهور في أماكن مكتظة خشية أن
يحاول المتشددون الانفعاليون المسّ به .
ظهر
مقال المراسلة الصهيونية في 9/12/2008م ، وفى الوقت ذاته تقريبا ، كانت الصحف عندنا
تنشر توابع أحاديث الإمام الأكبر للصحف والتلفزة حول المصافحة ، ووصفه لمن انتقدوها
بأنهم " مجانين " ، وأن انتقاداتهم " أحقر وأتفه من أن يرد عليها " ، وتكلم عن حصار
غزة من جانب العدوّ الصهيوني المحتل بقوله : " حصار إيه وقرف إيه ؟ واحنا مالنا "
وأضاف : " لا أعلم أن هناك حصاراً على غزة " ووصف سؤالاً من المذيع وجهه إليه بأنه
" سخيف " .. ثم قال فى سياق إجابة حول منع حجاج غزة " هى إسرائيل اللى مانعة الحجاج
؟ وافرض إنها عاملة الحصار واحنا مالنا . الكلام ده سخيف ، انتوا يجب أن تردوا انت
بتسألنى . واحد بيسلم على واحد دى فيها إيه ؟ قول لى ، واحد يهودى ، واحد مسيحى ،
واحد ملحد فى حفل عام وماشى سلم علىّ " وعندما قيل له إن صحيفة معاريف الصهيونية
ذكرت أن فضيلتك هو الذي ذهب وسلم عليه ، ولم يأت هو ليسلم على حضرتك . ردّ فضيلته :
" هما كدّابين ولاد ستين كلب ، إيه اللى رحت أنا أسلم عليه ؟ إزاى أنا هروح أسلم
عليه " ( المصري اليوم 7/12/2008م ) .
كنت
قد أخذت على نفسي عهداً ألا أكتب عن كلام شيخ الأزهر وسلوكياته مهما فعل ، ولكن
موضوع المصافحة وما اقترن به ، كان صدمة من نوع غريب ، لأنها لا تتعلق بالشيخ نفسه
، ولكنها تتعلق بنمط من التفكير والممارسة التي يخوضها العرب والمسلمون ، إزاء حالة
مفصلية فى تاريخ الأمة ، لا تقبل العبث أو تضييع الوقت ، أو إهدار الجهد ، أو
الوقوف على أبواب طغاة العالم انتظارا لعطفهم وحنانهم . وفى الوقت ذاته ، فإن
السلطة فى بلادنا ، مهما كانت الأمور يائسة ومذلة ، يجب أن تبقى على منصب شيخ
الأزهر ، رمزاً لكيان وعنوانا لكرامة وشارة لثقافة ..
صحيح أن الوضع العربي الإسلامي لا يسرّ ، وأن التشرذم والضعف والأنانية فاقت كل
التوقعات وأن العدوّ النازي اليهودي ، مدعوماً بالوحشية الاستعمارية الصليبية حقق
أكثر مما كان يتمناه ويتوقعه ، ولكن من قال إن الإجرام النازي اليهودي لا يمكن ردعه
وإشعاره بالوجع والألم ؟ إن المقاومة الفلسطينية الباسلة فعلت ذلك ، ولولا التراخي
والاستسلام والانهزام لحقق الفلسطينيون كثيراً من المكاسب . لقد دأب اليهود على
إذلال ضحاياهم كلما رأوا إرادتهم تنحل ، وعزيمتهم تتقوض ، وإصرارهم يتبدد ، ولكنهم
يتراجعون حين يجدون نمطاً آخر من التصميم والعزة والكرامة ، وهذه طبيعة التعامل بين
الوحشية والإنسانية .
أما
شيخ الأزهر فكان على المعنيين بالأمر أن يربأوا به عن هذا الموقف حتى لا تخسر مصر
صورتها فى أذهان العالم الإسلامي ، ودورها القائد فى المجال العلمي والشرعي . وإذا
كان البعض لا يعنيه التفريط فى المصالح الاقتصادية والمادية ، فإن المصالح المعنوية
والروحية لمصر لا تعوّض ولا تقدر بثمن . لأنها تكونت بالتراكم على مدى ألف عام أو
يزيد . لقد كانت المفارقة أن علماء السعودية لم يصافحوا السفاح ، ولم تظهر لهم صور
وهم يضعون أيديهم فوق يديه الدمويتين .. فلماذا نكون أقل حصافة منهم ؟ ثم هل فكر من
يعنيهم الأمر أن اليهود النازيين الغزاة ، يقدرون كل شيء بثمن ومبلغ وحساب ؟ أفلا
خطر على بالهم أن ثمن هذه المصافحة كان يمكن أن يكون كبيراً لو فكروا بلغة اليهود
النازيين الغزاة ؟
لا
ألوم شيخ الأزهر ، على ما فعل ، فالرجل إمكاناته محدودة ، لا تسمح له بالتفكير أبعد
مما يريده أهل السلطة وينفذه بحذافيره ، بدءًا من الفتاوى الحرام ، حتى التصريحات
السياسية غير المسئولة . ولا أحد يستطيع أن يضعه فى مكانة المشايخ حسونة النواوى
وسليم البشرى ، ومصطفى المراغى ، وعبدا لحليم محمود ، فهؤلاء كانت ولاءاتهم للإسلام
أكبر من ولاءاتهم للسلطة – أي سلطة ! – واستطاعوا أن يمارسوا شيئاً اسمه "
الاستقالة " ، ويحفظوا للإسلام ، كرامته وللأزهر كيانه . كانت قلوبهم معلقة بخدمة
الدين وليس خدمة السلطان .. ولهذا سطر التاريخ أعمالهم بحروف من نور ، وهى أعمال
تشرف كل مصري وعربي مسلم .
إن
ما فعله فضيلة الإمام لا يمكن الدفاع عنه لا من منظور إسلامي ولا قومي ولا وطني .
وبالمنطق المادي البارد ، فإن حرمان السفاح من هذه المصافحة ، والمساومة بها فى سوق
المفاوضات أو المناورات السياسية كان يمكن أن يحقق مكاسب سياسية للدولة أو للقضية
الفلسيطينة .. أما الذين يعتقدون من كتاب البلاط أن المصافحة نوع من إبداء حسن
النيات وقبول السلام والتفاهم ، ويعتقدون أن الأمم المتحدة منبر مهم لبيان وجهة
النظر الإسلامية فهم واهمون ، لأنهم ببساطة لا يعرفون الجغرافيا ولا يفقهون التاريخ
، ولو كانوا كذلك لأدركوا أن الغزاة النازيين اليهود لا علاقة لهم بالسلام من قريب
أو بعيد ، حتى لو أقسموا على التوراة ، وتاريخهم القريب والبعيد يؤكد ما أقول ، ثم
إنهم لا يؤمنون إلا بالقوة ولا يعترفون إلا بها ، وأنهم ما خضعوا فى يوم ما لقانون
أو رأى عام أو شعور إنساني .. إنهم يُملون شروطهم وحسب ، وحين يتفاوضون فإنهم
يقصدون الترتيب مع من يفاوضهم لتنفيذ شروطهم بالصورة المثلى ، أو تيئيس الطرف الآخر
حتى يستسلم تماماً ويرضخ لما يسمى الأمر الواقع – إن دول الغرب الاستعماري تقاطع
إيران وكوريا وزيمبابوي وكوبا وفنزويلا وغيرها حتى ترضخ لشروطها ، وسبق أن قاطعوا
الصين الشيوعية عقوداً طويلة ، وحين رأوها قادرة على الاستغناء وإثبات الوجود ،
ووجدوا أن الانفتاح عليها يحقق لهم مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية رفعوا المقاطعة
. والغزاة النازيون اليهود يفرضون حصارهم المميت على غزة ليتخلصوا من المقاومة
الباسلة ، ولم يسمعوا لنداء أصحاب الضمير فى العالم . فلماذا يريد كتاب البلاط أن
يتطوع فضيلة الإمام بمصافحة السفاح النازي مجانا ؟
هامش :
صبى
من صبيان الكنيسة فى الصحافة الخاصة ، شبه فضيلة المرشد العام بقوله : " مثل الفأر
الذي سقط خطأ فى برميل ويسكي فخرج سكرانا (؟) يصرخ فيمن حوله : أنا جدع أنا هبهدل
القطط " !!
وصبى
آخر قدم تقريراً أمنياً على صفحة كاملة ضد الإخوان والجماعات الإسلامية يبلغ فيه عن
إقامة مناطق حكم ذاتي داخل مصر ( وكأن الأمن ينتظر تقريره ! ) ، والأدهى أنه صور
المرشد بلباس هتلر على صدره وذراعه الصليب المعقوف ! ما رأى ميثاق الشرف الصحفي
ونقابة الصحفيين ؟ وهل يقدر صبيان الكنيسة على انتقاد الأنبا شنودة بنفس هذه
الألفاظ البذيئة والتعبيرات النابية التي يستخدمونها ضد فضيلة المرشد ؟