بريطانيا .. وفلسطين

بريطانيا .. وفلسطين

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

بريطانيا صانعة النكبة في فلسطين ، هي سبب المأساة التي ضيعت الأرض والعرض وشردت الملايين من الفلسطينيين في أرجاء الأرض بلا جواز سفر ولا هوية ، وهى من قبل وبعد رأس الحربة الاستعمارية الصليبية في المنطقة ، أخرتها حضاريا عدة قرون ، وحاربت الإسلام ، ومزقت الأوطان العربية ، بعد أن قضت على الخلافة الإسلامية ونهبت ثروات العرب والمسلمين من الهند وأفغانستان حتى مصر والسودان .. واستطاعت أن تنشئ وتربى وترعى نخبا عربية وإسلامية ، تحكم وتفكر بعقلية استعمارية همجية ، تحتقر أهلها وشعوبها وأوطانها ..

ومع وعد بلفور عام 1917م ، بدأت مأساة فلسطين على يدا لإنجليز . لقد تعهدوا بمنح وطن لليهود على أرض القدس والإسراء والمعراج . تعهد من لا يملك لمن لا يستحق ، وفقاً لشريعة القوة والاغتصاب .. ثم كانت سياسة الخديعة للعرب والمسلمين ، والموالاة والدعم لليهود ، والسماح بالهجرة اليهودية من شتى أرجاء الأرض إلى الوطن السليب ، مع الإمداد بالسلاح والتأييد السياسي في المحافل الدولية ، حتى صار لهم كيان وشوكة ، فكان الإنجليز من وراء قرار التقسيم والاعتراف وجلب التأييد من الدول الأخرى للكيان النازي اليهودي الغاصب . ثم كانت مؤامرة 1956على مصر بالاشتراك مع فرنسا والكيان ، والتمهيد لهزيمة 1967، وقرار مجلس الأمن الدولي 242 ، الغامض الذي يتحدث عن أراض محتلة وليس الأراضي المحتلة .

بريطانيا هي الحبل السري للكيان الغاصب قبل أمريكا وغيرها من دول الغرب ، وهى الرافض لأي حلّ منصف أو عادل لمأساة الشعب الفلسطيني .. وما زالت حتى اليوم تقدم الدعم المادي والمعنوي لليهود النازيين الغزاة القتلة في فلسطين المحتلة ، ولم يرتفع صوتها ضد الممارسات النازية الإرهابية ضد الشعب المظلوم وحصار غزة الظالم الذي وصل إلي حد الإبادة الجماعية ..

قبل أيام ظهر علي شاشة  إحدى الفضائيات الشهيرة وزير خارجية بريطانيا السيد "ديفيد مليباند " في حوار مطول وقد حاولت أن أجد في هذا الحوار بعض الإنصاف أو بعض التعاطف مع الشعب الفلسطيني ، ولكنه مثل أسلافه ، كان يراوغ ، ويُسوّغ للغزاة النازيين اليهود أفعالهم وممارساتهم وسياساتهم ، ولا يبدى أي تعاطف مع الشعب الفلسطيني المظلوم .. كل ما كان يؤكد عليه هو رغبة بريطانية في إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع ، ولم يذكر شيئاً عن حدودها وطبيعتها ، وبالطبع لم يتكلم عن القدس المحتلة .. لقد كان مع القاتل ضد القتيل ، ومن خلال احتراف لغوى جيد – أعترف به – لم تستطع المذيعة أن تنتزع منه لفظاً ينحاز إلى العدل أو الإنصاف .

بل إنه كان يدافع عن السفاح اليهودي شيمون بيريز ، ويرى فيه رجل سلام ، أو يتحدث جيّداً عن السلام ، وعندما تذكره المذيعة أنه قتل المئات من المدنيين في معسكر الأمم المتحدة ببلدة قانا اللبنانية ، يحدثها عن أفكار بيريز للسلام ، وأنها أفكار إيجابية ... إلخ ، وعندما تحتج على منح بيريز لقبا بريطانيا فخما ، لا يجد غضاضة في محاولة إقناعها أن يستحق هذا اللقب لأنه يعمل من أجل السلام ! لقد هتفت من فوري وأنا أسمعه : آه يا منافق !

إنه لم يختلف كثيراً عن رئيس الوزراء البريطاني السابق " تونى بلير " الذي عيّن – يا للمفارقة – رئيسا للجنة الرباعية التي تضم ممثلين للقوى الكبرى – دون العرب بالطبع – وهو سياسي بريطاني مراوغ يلعب بالكلمات مثل الحاوي الذي يلعب بالبيضة والحجر ، ويعلن ولاءه باستمرار لليهود بأكثر من طريقة ، لدرجة أن أشيع أنه سيتحول من البروتستانتينية إلى اليهودية !

والسيد " ميليباند " ابن شرعى للسياسة البريطانية الماكرة التي ضحكت على العرب طوال القرن الماضي حتى الآن ،منذ أن استعمرت بلادهم الأساسية وأذلتهم واستعبدتهم ، وجعلتهم ملعبا فسيحاً لحروبها ومغامراتها ، ويكفى أنها تركت مع حلفائها في صحراء العلمين وما حولها ملايين الألغام الأرضية التي تذهب بالمئات سنويا دون أن يهتز لها جفن أو يرتعش لها خاطر إزاء هؤلاء الضحايا ، بل إنها تردّ رافضة ببجاحة وصفاقة على المحاولات التي يبديها بعض المسئولين المصريين للمساعدة في إخلاء الصحراء الغربية – وكانت ميداناً للحرب العالمية الثانية – من الألغام ، بالإفراج عن الخرائط أو تقديم الدعم التقني والمادي لكشف الألغام وتفجيرها ، وتطهير الصحراء من أذاها .

بيد أن الذي يبادر إليه السيد " ديفيد مليباند " هو إهانة العرب والمسلمين بأسلوب فج وجارح ، حيث أفرج في الشهر الماضي - موعد زيارته لما يسمى الشرق الأوسط  - عن مجموعة الملفات القديمة المتعلقة بهجرة اليهود المسلحين إلى أرض فلسطين ، وتكريم الدبلوماسيين البريطانيين الذين قاموا بدور رئيسي في تسهيل هذه الهجرة إلى الوطن السليب وخاصة بعد بروز " أدولف هتلر " الزعيم النازي الألماني ، وضم النمسا إلى ألمانيا .

لقد قام رجال الخارجية البريطانية في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي بدور خطير في تهجير آلاف اليهود إلى فلسطين ، ليس من العاصمة البريطانية وحدها ، وإنما من عواصم الغرب الأخرى – لقد أصدر هؤلاء الدبلوماسيون آلاف الجوازات ووثائق السفر التي مكنت اليهود الغزاة من الهجرة إلى فلسطين التي كانت أمانة في عنق بريطانيا بحكم أنها دولة الانتداب التي ترعى أهلها وتحميهم وتتولى شئونهم ولكنها ما رعت الأمانة ولا حمت شعباً أعزل مضطهداً ، تذبحه العصابات اليهودية كل يوم ، وتهجّر أفراده وتشردهم وتهدم بيوتهم وقراهم بلا شفقة ولا رحمة ..

لقد وقفت بريطانيا ورجالها إلى جانب الغزاة اليهود ، وسهلت لهم وسائل الاستيطان والقوة ، ولم تبال بما كان يصنعه السفاحون في العصابات اليهودية مثل الأرجون زفاى لومي والهاجاناة وايتسل وغيرها ، من اغتيالات للضباط البريطانيين وإعدامهم ، ونسف الفنادق والمعسكرات التي كان البريطانيون يقيمون بها .

والمفارقة أن أحداً في فلسطين أو البلاد العربية لم يحاول أن يفهم سياسة السيد " ميليبايد " أو الخارجية البريطانية التى ما زالت تصرّ على الوقوف إلى جانب العدوّ النازي اليهودي ودغدغة مشاعره بأطيب المساعدات وأفضل ألوان الدعم ، وفى الجهة المقابلة تضع المقاومة والمنظمات الإسلامية الفلسطينية التى تدافع عن الوجود الإنساني لما تبقى من الشعب الفلسطيني في قائمة الإرهاب والمطلوبين ، وتبارك حصار الإبادة والموت على غزة ، وتطلب من رئيس السلطة الإدارية المحدودة في رام الله أن يبذل المزيد من الجهود لقتل المقاومين واستئصالهم حتى يستتب الأمن !

بل إن بريطانيا أعلنت قبل يومين عن نيتها تجميد حساب إحدى المنظمات الفلسطينية التي تتولى الإغاثة والتنمية في الوطن المحتل ، وذلك في سياق تهديد الفلسطينيين وإذلالهم !

ترى متى يؤمن العرب أن القوة ، ولا شيء غير القوة ، هي التى تقنع الآخرين بتسليم الحقوق والخضوع للقانون ؟

إن دبلوماسية الكلمات الفارغة أخطر من الهزائم في ميادين القتال ، إذا رضي بها المظلومون وأصحاب الحقوق.