أسافل سوريا يحاكمون فضلاءها 1

د. عبد الرزاق عيد

منذ ما يقارب أربعة عقود وسفلة سوريا يحكمونها كذباً باسم عمالها وفلاحيها ومثقفيها الثوريين، والسفلة هؤلاء يتمثلون بكل ما ترسب في حوض حافظ الأسد من تاريخ الحركة الوطنية السورية، أي مما ترسب من حزب البعث ومن الأحزاب المشكلة لما يسمى الجبهة الوطنية التقدمية، حيث سيؤسس الأسد لمعيار قيمي جديد في تاريخ سوريا مع ما سماه بحركته التصحيحية، وهو معيار (بيع الضمير) للارتقاء (النضالي والثوري)، حيث كلما ارتقى الفرد في مملكة قيم الأسد فلنعلم أنه الأكثر وغادة في بيع ضميره وشرفه، والذي دعانا إلى هذا المدخل، هو الحكم الصادر بحق الأصدقاء الأفاضل في قيادة إعلان دمشق (الإثني عشر كوكباً) في سماء سوريا لتزداد الظلمة ظلاماً وحلكة مع مشهد تسفيل القضاء إلى هذا الحد، فعندما يسفل القضاء في مجتمع فلن يبقى فيه مكان رفيع ولا علو ولا سمو ولا رفعة، إنه السقوط إلى الحضيض، فتشرشل لم يهتم لكل وقائع الخراب التي لحقت ببريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن اطمأن إلى أن القضاء قائم، فعندما يكون القضاء تكون الدولة، فمن السهل إعادة بناء الجغرافية الطبيعية للدولة، لكن التحدي الكبير هو في بناء الجغرافية البشرية للدولة التي هي القضاء تعريفاً وحداً، كيف لنا ولشعب سوريا أن يرى بلده وهو يتهدم على مرأى البصر باسم الوطنية والقومية وسمعة الدولة وهو يرى قضاءه –أي دولته الحقيقية- يتهدم على يد أولئك القضاة اللذين طالتهم منظومة قيم التصحيح الأسدي الذي لم يتكشف إلا عن معنى واحد: التصحيح يعني: الإفساد، وإفساد القضاء لا يعيد الوطن إلى مستوى أن يكون تراباً وحجارة فحسب، بل يعني التطلع لجعل الوطن مبغى، لأن بطانة الفساد وطغمته منذ مؤسسها الأول لا تحتمل أن يبقى حولهم في الوطن مواطنين شرفاء يذكرونهم دائما بأن من يريد أن يجعل من وطنه مبغى فهو لن يكون إلا قواداً، وهذا الصنف البشري الوضيع يتميز بسيكولوجيا بخصيصة الإسقاط و(التمجد) حسب تعبير الكواكبي، فالمتمجد هو الوضيع الذي يلهج شعارياً بالمجد والعظمة والخلود إلى الأبد... إذ لولا هذه الحضيضية لما أمكن أن يوجد في سوريا قاض مثل هذا المدعو (الحلاق)، الذي يتوفر على ركام من الوضاعة يمكنه أن يحدق في عيون فداء حوراني وهو ينطق بحكم سجنها، ويقف أمام خيرة ممثلي الضمير الوطني (رياض سيف- علي العبد الله- د. وليد البني –أكرم البني - د. أحمد طعمة- طلال أبودان – جبر الشوفي - فائز سارة - د. ياسر العيتي- محمد حاجي درويش- مروان العش)، إن وجود قضاة على هذا المستوى من الخسة يجعل الحديث عن تحويل الوطن إلى مبغى ليس هجاء، بل هو توصيف حقيقي للمنظومة القيمية التي ينتجها هذا التحالف الوظيفي بين رعاع الريف الذين تذهب نخبهم إلى المخابرات، وحثلات المدن الذي يقدمون مثل هذه النخب من أمثال (القاضي/الحلاق) ليشتغلوا قضاة عند المخابرات، فهكذا نظام سياسي لن يستدعي إلا هكذا نظام قضائي، اشتغل عليها صاحب التصحيح وورثته الصغار أربعين سنة من تيه القهر وتغريب القيم الوطنية والأخلاقية والضياع والهدر لكل معاني النبل والسمو في الشعب السوري، وتدمير لكل منظومات القيم والمعاني والمفاهيم التي تنتج معادلة الوطن، في صورة قيم البغي والبغائي التي انحط إليها قضاؤنا الوطني السوري عبر معادلة بيع الضمير وقبول (التفئير: تحويل الإنسان إلى فأر) كانت تتم عملية تمسيخ اجتماعية شاملة، يغدو فيها الصرصار (مسخ) كافكا حالة اجتماعية سورية من إبداع المخيلة السوداء لحافظ الأسد وزبانيته الذين جمعهم من رعاع بيئته الريفية وما يماثلونهم قيماً (تفئيرية) من حثالات المدن، الممثلة بأحزمتها من المهربين وتجار المخدرات والسلاح الذين كانوا ينحرون له الخراف والأضاحي بشفائه كما راح البعض يرد علينا لإثبات عظمة حافظ الأسد، وذلك لأن نظام (التفئير) يقتضي ثواباً للعبيد: كل خاروف بمئة من مثله في غابة الأسد، على اعتبار أن الطغاة لا يشربون خمرتهم المقدسة إلا في جماجم الضحايا على حد تعبير ماركس، حيث يكافأ صاحب قرابين تدمر وحماة بقرابين مهربي المخدرات الذين ذبحوا له بشفائه تكريماً لإنجازات الذبح التي قدمها للشعب السوري في حماة وحلب وجسر الشغور وبعد أن توج ملحمته القربانية في تدمر، وقد كافأه ذباحو الخواريف والعجول والشرف على مذابحه تلك التي ارتفع بها إلى مستوى القانون (49)، (قانون الذبح) الذي يشرعن قطع رأس أي إنسان لا يفكر كرأس الأسد، هؤلاء هم الذين كوفئوا ليصبحوا ممثلي المدن في مجلس المسوخ (برلمان الفئران) والوزراء من مسوخ كافكا، والذين "كلما ازدادوا ارتفاعاً في المكان كلما ازدادوا انحداراً في المكانة" على حد تجلي شيخنا العظيم ابن عربي، وذلك على طريق التهالك والوضاعة لامتلاك مسوخ: (الروح الصرصارية)، التي راحت تنشر بقوة سيف إرهاب المدرسة الأسدية وذريته إلى يوم الدين، بعد أن توج الملالي (ميثولوجيا المسخ والتمسيخ الطائفية) بإضفاء الشرعية الفقهية الولايتية عليها، عبر شراء دين الناس وهويتهم الوطنية والقومية بتقاسم وظيفي يقوم –وفق ما وصفناه سابقاً – على الدمج الفقهي بين (ولاية الفقيه ووصاية الرفيق)، لإحكام الخناق على سوريا ولبنان والعراق بل وفلسطين...!

أربعون سنة والأسد الكبير يعيش مرض التوحد مع الذات، حيث استراتيجية تفريغ غابته (سوريا) من كل الكائنات المرتفعة الرأس، لكي لا يبقي في عرينه سوى الفئران، فحتى الغابات الطبيعية المحكومة بقانون طبيعتها الذي يعطي الأسد حق أن يكون ملكها، فإن هذا القانون (الطبيعي-الحيواني) يتيح نظامه الطبيعي أن يكون هناك تراتب هرمي في سلم سلطة القوة، حيث السباع والفيلة والنمور يحكمها نظام داخلي متناغم يحفظ للكائنات الحية مقامها، لكن أسد سوريا المريض بطبيعته –التوحد- لم يكن قادراً على احتمال وجود كائنات أخرى حوله سوى (الفئران)، وأول (خطواته التصحيحية) تمثلت في التخلص من كل سباع ونمور الحركة الوطنية على مستوى مملكته السلطانية، ومن ثم انتقل إلى المجتمع ليشن حربه المقدسة –وحشياً- ضد كل من يرفع رأسه اعتداداً بآدميته المكرمة إلهياً والمحصنة إنسانياً بشرعة حقوق الإنسان منذ قرون مرت على (آل الأسد) دون أن يشعروا بها، ليس على مستوى المخزون الثقافي الشعوري واللاشعوري أيضاً لـ (قرداحة الأب فحسب بل وعلى مستوى لندن الابن)، إذ لا يستطيع الأب ولا الابنويبدو أن الأمر وراثي- احتمال رفع أي رأس كان دون أن تتحرك غريزته للنطح، لأنه (نطاح كبير: سيد النطح بلا منازع) فيما يروي عنه صديق عمره وجنراله (المرصع بالنياشين)، والمنتشي إعجاباً بقوة ومواهب سيده النطحية، إلى حد أنه كان يتباهى بالتمتع بهواية سيده المرضية التي تفاقمت من (نطح الرؤوس إلى قطع الرؤوس وإبادة النفوس) شنقاً في تدمر، فيتحدث (جنرال النياشين) عن توقيعه الأسبوعي على شنق المئات باسم سيده، سيد النطاحين (النطاح الأول)، وفق هوايته في تسمية نفسه: بالأول دائماً حتى ولو على المستوى الطغياني، وقد كان له قصب السبق في ذلك عربياً بل وعالمياً".

كانت آخر عملية تقويض روحية لـ(أنا) الوطنية القانونية والأخلاقية التي شخصتها طريق (تفئير) المجتمع القيمي بل والمدني والسياسي – بعد (تفقيره) المعاشي والسيادي- كانت من خلال التهام ما تبقى من مؤسسة القضاء التي خلفتها المرحلة الوطنية الديمقراطية، بوصف القضاء هو العنوان الأخير للفصل بين (الأرض الطبيعية والأرض الوطنية) كما ألمحنا، فأول تعريف للوطن، هو الانتقال به من معناه الجغرافي الطبيعي إلى معناه البشري الوطني، هو أن تضع لهذه البقعة الجغرافية من الأرض قانوناً وسلطةة قضائية، حيث القانون هو الذي يؤسس للجغرافيا كي تتحول إلى مجتمع ينظم القضاء شأنها عمرانياً وبشرياً، أي يجعل منها مجتمعاً، ومن ثم وطناً.

لقد افترس الأسد الأكبر القضاء بنشاط وهمة وشهية عارمة، بوصفه الحاجز الأول أمام استحواذه وطغمته العائلية والطائفية ومن ثم الحزبية على95% من ثروات سوريا دولة وشعباً بعد أن دمر الدولة لصالح السلطة الطغمة: (الطائفة والزبانية والبطانة)، وألغى المجتمع بـ(تفئير وتقريد) كينونته الاجتماعية بعد أن انحلت إلى جماهير دهماوية تفتديه شعارياً بالروح المشوهة والنفوس الجوف والدم الملوث الذي غدا ماء مجرثماً، بعد أن تمكن من نقل تخريبه الروحي والوجداني من عصابته الأمنية والطائفية إلى حزب البعث المسكين: (حوالي مليونين: 95% منهم من الغلابة وأبناء السبيل الباحثين عن الوظيفة)، مقابل منحه قيادة الدولة والمجتمع (المادة 8) دستورياً وشعارياً، ليتخذ منه دريئة أيديولوجية لموبقاته الفكرية والثقافية التي يستبدل من خلالها قيادته القطرية وشعاراتها الثورية بمجلس الملالي وفتاويها (النكحانية) التي تشتم عمر بن الخطاب لأنه نهى عن زواج المتعة، فأفسد على الأئمة خلواتهم السماوية بالحور العين وخلوات غيابهم السعيد بالغلمان المخلدين، وذلك بعد أن وضع العروبة في عربة (القومنة الفارسية المتشيعة)، وذلك بعد أن تمت عملية تنظيف البعث نهائياً ممن يضعون على الأكتاف رأساً وبين الجوانح ضميراً.

إن منظومة التسفيل (الإفساد الممنهج) للحركة التصحيحية تقوم في أول عناوينها على تصحيح الكائن بما يتناسب مع العيش في غابة التوحد الأسدي، حيث البعثي الجيد هو الفاسد الجيد، والمواطن الصالح هو الذي يعيش داخل قفصه الفئراني بفخر واعتزاز لكونه يعيش في (سوريا الأسد... يا نياله)، وكلما ازداد المواطن فأرية ازداد مجداً وأهمية وفق منظومة التسفيل التصحيحية، وذلك على طريق إنهاء سوريا كصيغة وطن يتشكل كـ (مجتمع مدني) لإعادتها إلى غابته، ولتمكين السفلة وبشكل نهائي في التحكم بعملية (التفئير والتقريد) الوطني.

لقد كان الأب يمارس وحشيته بأصالة، فيفترس البشر عيانياً، يدمر المدن دون أن يرف له جفن، يضع عشرات الآلاف في السجون، يشنق منهم ما طابت له نفسه واشتهت غرائزه، يرمي أصدقائه في السجون وينساهم عشرات السنين، بينما الابن يأنف من الافتراس على طريقة أبيه القروية، فيستخدم الشوكة والسكين في افتراس أبناء شعبه (الخارج على القانون) وذلك عبر القانون الذي خلفه له أباه، وعبر قضاة مثل هذا المسمى بـ (الحلاق) وقبله (النوري) الذين يستندون في ميثاقهم القضائي إلى الميثاق المخابراتي، والميثاق المخابراتي باستناده إلى قاعدة سوسيولوجية طائفية متحدرة من الرعاع تنظر باحتقار (ثوري) إلى حلفائهم من حثالات المدن أمثال (النوري والحلاق.... إلخ)، حيث رعاع الريف يرفضون غريزياً كل صيغة مدنية تعاقدية بوصفها نتاج مخنثي المدن (البورجوازيين) من أمثال ميشيل عفلق وصلاح بيطار، ومن ثم أكرم الحوراني الذي أسكرته الشعبوية الفلاحية بخمرة الرومانسيات الطبقية للفقراء الفلاحين، الذي ردوا على إحسانه باعتقال ابنته (د. فداء) لكي تفتدي رومانسية أبيها المغدور والمخيب عندما لم يتعظ من المثل القائل: "اتق شر من أحسنت إليه"، ونضيف: من الأشرار طبعاً، ورومانسية المشروع القومي الكبير المحتضر منذ أربعة عقود على يد سفاح عابر في تاريخ الأمة لم يتركها إلا بعد أن حفر أخاديد الكراهية والشحن الطائفي على جسدها المثخن بالجراح...!

فما كان لهم إلا أن يبحثوا عن الحثالات المدينية القادرة على الانصياع لسلطانهم الرعاعي، على طريقة ونهج الأب القائد القائم –بالإضافة إلى المسخ الفأري- على نسق الإبدال، من خلال الإلغاء القائم على التصفية الجسدية لاستبدالها بالكائن (الفأري – القردي)، بدءاً من تأسيس النسق بقتل كمال جنبلاط للاستعاضة عنه بـ(وهاب) النموذج الأمني الأسدي.... وليس انتهاء بقتل رفيق الحريري طائفياً لصالح ممثلهم السنّوي (يكن) الذي يمثل التحاقه بالمخابرات السورية بمثابة فتوى بهدر دم الشهيد الحريري.

..... يتبع