المنتصر على الطفولة
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
لم تكن صورة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي أكثر وضوحا في يوم من الأيام كما هي متجلية اليوم. لم يعد الموضوع منحصرا بين تنظيم حماس واسرائيل ، اصلا لم يكن الصراع في يوم من الأيام بين تنظيم ودولة، بل بين حركة تحرر قومي ودولة محتلة. لكن الصراع لم يتجلى بجوهره الفلسطيني التحرري كما يتجلى هذه الأيام.
لا بد من الاقرار اولا ان ما اعدته حركة حماس من وسائل الدفاع ، الاعداد العسكري لحرب مواجهة شرسة، لم يفاجئ العدو الاسرائيلي فقط، انما كان مفاجأة لمجمل ابناء الشعب الفلسطيني. بنفس الوقت لا بد ان اسجل ان الواقع العربي لم يكن مفككا كما هو الآن ، بدل توظيف انجازات المقاومة الفلسطينية في غزة، لمصلحة احداث نقلة نوعية في المواجهة العربية الاسرائيلية ، من اجل انجاز المشروع الوطني الفلسطيني، اعادة اسرائيل الى حجمها الطبيعي، نجد ان الأنظمة العربية ( خاصة مصر) تتصرف بناء على حسابات شخصية بائسة. قد تكون حماس ارتكبت اخطاء بحق مصر حسب رؤية قباطنة النظام الجديد، الذي يرفض أن يرى ان المواجهة في غزة لم تعد مواجهة مع تنظيم اسمه حماس ، بل مواجهة بين المقاومة الفلسطينية، ممثلة للمشروع القومي الفلسطيني من جهة ومن الجهة الأخرى المشروع الصهيوني الذي يشكل خطرا عاما على كل واقع الشرق الوسط. مصر كانت أكبر ضحية لهذا المشروع منذ العدوان الثلاثي 1956 مرورا بنكسة حزيران 1967، لذا بدل ان يعمل النظام المصري ، بصفته النظام العربي الأهم والمقرر في الواقع العربي، لتكريس صمود غزة، صمود الشعب الفلسطيني ، والضغط المناسب لتحقيق مطلب انساني اساسي هو فك الحصار عن قطاع غزة، وقف القمع الاحتلالي الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وطرح حل النزاع على اساس دولتين لشعبين، يعمل النظام المصري على تحييد اٌلإنجازات السياسية الهامة لصمود الشعب الفلسطيني وصده للآلة العسكرية الهائلة التي اطلقتها اسرائيل ضد المشروع القومي الفلسطيني، ضد مشروع وحدة الشعب الفلسطيني رغم شكليتها، لكنها ارعبت اسرائيل وخاصة حكومتها الحالية، التي تريد ابقاء الواقع الفلسطيني يتأرجح بين طاولات المفاوضات الى ما لا نهاية بتنكر كامل للحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني ، حتى يصل اليأس الفلسطيني الى الحد القاطع الذي يصبح فيه التسليم افضل من استمرار الحياة تحت حراب الاحتلال وسوائب مستوطنيه.. هذا كان واضحا في كلمة نتنياهو في المؤتمر الصحفي المشترك مع الأمين العام للأمم المتحدة (الثلاثاء 22-07) ، لا يرى دولتين ، بل صراعا ضد "تنظيم ارهابي" لا يختلف عن القاعدة وداعش كما قال، هذا الكلام يعني أمرا واحدا ، ان نتنياهو لم يغير فكره الاستيطاني الاحتلالي، وكل تشدقاته عن حل دولتين ، كان مجرد ذرا للرمال في العيون.
ان حركة حماس هي فصيل من الحركة القومية الفلسطينية ، من حركة التحرر القومي الفلسطيني ، قد لا نتفق معها على الكثير من الطروحات، على خطوات عديدة اتخذتها بعد وصولها للسلطة، لكننا لا يمكن ان نختلف حول تمسكها بحق شعبنا بالحصول على حريته وعلى حقه في اقامة دولته الفلسطينية فوق تراب وطنه. على حق شعبنا باستعمال كل وسائل النضال المشروعة من اجل انهاء الاحتلال وانعتاق الشعب الفلسطيني.
غزة لم تصحو فجأة لتطلق الصواريخ، غزة تخضع لأبشع اشكال الاملاق، عبر حصار قاتل يجري تجاهله من الغرب ، لا يرون الا صواريخ حماس، لا يرون ان الحرب بدأتها اسرائيل في حملة واسعة لضرب حماس والفلسطينيين عامة عقابا على توصلهم لاتفاق المصالحة، مستغلة بذلك حادث خطف وقتل الشبان اليهود الثلاثة، حادث اليم ومستنكر، اسرائيل قامت بهجمة شرسة ضد تنظيم حماس في الضفة الغربية، اعادت اعتقال المئات، نقضت اتفاق "صفقة شاليط"، اعتقلت الأسرى المحررين، بلغ عدد المعتقلين ما يقارب او يزيد عن 1500 معتقل فلسطيني. كان اعلانا لحرب محددة الأهداف لا يمكن ان تكتمل بدون ضرب تنظيم حماس في غزة.
كنا نأمل ان نسمع ايضا استنكار نتنياهو لقتل عشرات الشباب الفلسطينيين ومعاملة الاحتلال غير الانسانية للأطفال الفلسطينيين واطلاق يد سوائب المستوطنين للتصرف الحر بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. . كيف يمكن ان نصدق ان جبروت المخابرات والأمن الاسرائيلي قادرين على كشف جريمة قتل الشبان الثلاثة و"يعجزون" عن كشف عصابات "تدفيع الثمن" التي تحرق وتدمر املاك الفلسطينيين في المناطق الفلسطينية المحتلة وداخل الخط الأخضر ايضا؟
حماس التجأت الى التهدئة منذ البداية، كان ظن الحكومة الاسرائيلية المصغرة للشؤون السياسية والأمنية ان ما جرى في العملية السابقة سيتكرر، لكن حسابات السرايا ليست مثل حسابات القرايا. لم يتوقعوا ان حماس اعدت قوة منظمة حسنة التدريب قادرة على ادارة معارك شرسة. نحن ايضا تفاجأنا!!
لا اتوهم ان حماس قادرة على هزيمة اسرائيل عسكريا، لكن صمود حماس يعني أمرا اساسيا ، شروط اللعبة لإقامة دولة فلسطينية دخلت مسارا جديدا مختلفا يجب ان يغير الكثير من الطروحات الفلسطينية. من جهة اخرى لا يمكن اعادة قطاع غزة الى ما كان قبل هذه المواجهة، منطقة جغرافية معزولة دوليا ، حصارا – سجنا كبيرا يضم 1.8 مليون انسان ، محرومون من ابسط شروط حياة انسانية . بطالة تقارب ال 50% ، فقر مدقع ، يبدو الحال في غزة ان الفلسطينيين لم يبتعدوا كثيرا في واقع معيشتهم من الأيام الأولى للنكبة والتهجير.
ماذا تعني التهدئة ؟هل تعني العودة الى السجن الكبير ؟ الى البقاء تحت رحمة الاحتلال وحصاره؟
ان انتصار اسرائيل العسكري ليس امرا بعيدا عن الواقع، السؤال هل تستطيع اسرائيل ان تتحمل ثمن انتصارها على فقراء غزة؟ الن يكون نصرها أشبه بما قاله شاعر فلسطين القومي محمود درويش:
"مرحى لفاتح قرية
مرحى لسفاح الطفولة"
بعد أكثر من اسبوعين من القتال.. اي "انتصار" تنتظره اسرائيل ؟
ما اتوقعه ان يبدا الشارع الاسرائيلي بالتململ، وظواهر التململ الأولى بدأت تتضح. ان فقدان هذا العدد من الجنود من أجل تنفيذ مشروع نتنياهو ستكون له اسقاطات خطيرة على استمرار هذا النهج. صحيح ان اليمين ما زال صوته الأعلى .. خاصة بغياب معارضة منظمة ، بل بتفككك المعارضة اليسارية الصهيونية بشكل مخجل يقضي على مستقبلها السياسي كبديل سياسي لسياسات اليمين الفاشلة!!
الوضع لا يختلف عما ساد سابقا في كل غزوات حكومات اسرائيل. اليسار مثل الحرباء، يقلب جلده ويصبح يمينيا بلا عقل وبلا موقف خاص واضح. يكشف قفاه لليمين بدون خجل. هنا تكمن احدى مشاكل المجتمع الاسرائيلي الخطيرة. حتى تنظيمات مثل حركة "السلام الآن" يبدو انها ابتلعت لسانها!!
ان انتصار اسرائيل في غزة بعيد عن الواقع ، وسيكون انتصارها تورطها بمصيدة في اوساط مواطنين فقدوا كل شيء .. لم يعد لديهم ما يخافوا عليه ولا شيء يخسروه.
انتصارها سيكون شر من هزيمة!!