لماذا أضرب العاملون في جامعات الضفة وغزة
د. كمال أحمد غنيم
"أنتم تضربون من أجل المال! لمصلحة مادية يعني!!"، قالها بملء فمه وهو يضحك، وفي مرة أخرى قال: "أنتم تضربون في الوقت الخطأ، الناس لا يفرّقون بين إضرابكم والإضرابات المسيّسة الصادرة أوامرها من رام الله!"، ثم عاد ليقول: "سيقول الطلبة إنكم تضربون والناس لا يجدون طعاماً!".
قلت: الإجراءات النقابية من أجل الحقوق أمر مشروع سواء أكانت الحقوق مالية أم غير ذلك، فالمرأة التي وقفت لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهو يأمر بتحديد المهور، مذكّرة في موقف احتجاجي مشهود وتاريخي بقوله تعالى: "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهنّ قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا" (النساء: 20) جعلت أمير العدل يقول بجرأة تُحسب له على مرّ التاريخ: "أصابت امرأة، وأخطأ عمر"، كيف لا وهو القائل في موطن آخر: "كل الناس أفقه منك يا عمر". وتكمن روعة عمر في أنه لم يترك كلمة الحق من أجل أن يتشبث بشكليات، منها التصويب أمام الخلق! أو ماهية من يقوم بالتصويب، أو قسوة الاستشهاد بآية حملت تقريعا شديدا... وهو لم يحاول أن يهرب من الحق والصواب ليتشبث بمسألة ثانوية، لذلك لم يقل لها ساخرا: "أنت تبحثين عن المال يا امرأة!! أهذا هو كل ما أثار انتباهك في الموضوع؟!"، لقد رأى الحقّ فلم ينتبه لغيره، ولم يسكت، بل اعترف بذلك الحق على مسمع من الناس ومشهد منهم على مرّ التاريخ، وما زلنا نراه نحن في القرن الحادي والعشرين يفعل ذلك بجرأة نادرة في زمانه... وفي زماننا.
أمّا مسألة الطعام في زمن الحصار فقد شكّل الموظفون في المؤسسات المختلفة: حكومة ووكالة وجامعات رافعة للمجتمع من وهدة الفقر والحرمان على مدار السنوات الماضية وفي السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص. وقد تحركت أوضاع الناس جميعا وموظفو الجامعات ساكتون من دهر بعيد، تقلبت الدنيا في نظام الخدمة المدنية والعلاوات... وتضاعفت أجرة سائق التاكسي وبائع الخبز والغاز والبندورة...، ومعدل الإنفاق يعلو ليس على الموظف وحسب بل عليه وعلى من يعول ومن يكفل... لأن العامل في الجامعة ما زال يُري من نفسه خيرا على أكثر من صعيد !
ومسألة الإضراب المسيّس لا يمكن فهمها لدى إضراب جزئي محدود يتعلق بيوم أو اثنين بعد مفاوضات على مدار عام، وتلويح بالإضراب قبل ثلاثة أشهر، وإعلان عنه قبل شهر لمّا يئس الناس من وجود تجاوب أو استماع لمطلبهم... وتوقفٌ عنه بمجرد وضع خطوط عريضة لاتفاق حوله قبل الوصول إلى اتفاق كامل!! والأهم الذي ذكّرنا به مرارا أن الإضراب ثقله في الضفة ورام الله لا في غزة لأن تسع جامعات تضرب هناك وجامعتان تضربان هنا!! إنه ليس إضرابا محموما لا يتناسب حجمه مع حجم مطالبه كما الإضرابات المسيسة، وهو لم يترك لنفسه انفتاحا لا تعقّل فيه، ولم يضع اشتراطات تعجيزية أو وهمية لا واقع فيها، ولم يربط نفسه بقطاع الإضرابات المسيسة على لسان كل القائمين عليه!!
هذا الإضراب إضراب مشروع لم يقتل أحدا ولم يجرح أحدا، ولم يتمترس وراء كلمة إنصاف قالتها جهات محايدة، فوّضها مجلس التعليم العالي بدراسة الكادر المطالب بتعديله، تقديرا منه لتعقيدات الواقع، حيث راح يلتقي في منتصف الطريق مع إمكانات الجامعات وطبيعة الظرف المحيط، وهو قد حدد جهة النزاع بدقة بعيدا عن تعقيدات السياسة ومزاودات المزاودين وتشويهات المشوهين الذين لم تفلح تشويهاتهم إلا في تكريس فشلهم؛ لكنهم ما زالوا بغباء يصرون على النهج ذاته وعلى نتائج فشلهم ذاتها، كأنهم لا يتعلمون ولا يعتبرون!!
هو إضراب يمهّد لإمكان تطبيق التأمين والمعاشات في الجامعات، مما يعني استقرارا حضاريا لمجموعة كبيرة من أبناء هذا الوطن... وكأن من لا يريدون منّا أن نسمع صوتنا بالإجراءات النقابية إنما يريدون لنا أن نضيف إلى المجتمع مجموعات جديدة من الحالات الاجتماعية التي يتباكون عليها اليوم، فلا مانع لديهم من موت موظف -أكبر أبنائه التسعة في الثانوية العامة وأصغرهم في مهد الثلاثة شهور- لا مانع من موته ومن تحول أبنائه إلى حالات الفقر التي لا تجد لها معينا إلا ذلّ السؤال أو كرم المعطائين.
إنّ على من يتباكون اليوم على الحالات الاجتماعية الصعبة في مجتمعنا أن يجدوا الحلول الجذرية لتلك الحالات لا الحلول المؤقّتة، إن عمر بن الخطاب أمير العدل لم ينتظر من أحد أن يدفع مدخرات ليطبق نظام التأمين والمعاشات عندما رأى كتابيا يهوديا يطلب الصدقة فقال: "ما أنصفناه، أخذنا منه في شبابه وضيعناه في شيبته!" وفرض له راتبا شهريا يكفيه مئونته!! واليوم لا نجد عمر، ونجد نظما حضارية تسير على نهج عمر، ويعدّ المطالبون بها عصاة متجاوزين للحدود...
إذا لم نبدأ طريق الألف ميل بخطوة فلن نصل يوما ما إلى هدفنا، ينبغي أن نحوّل الشعارات إلى نظم تسير على الأرض حيّةً بين الناس! نحن لا نريد أن تزداد رقعة الفقر بين الناس، وذلك لا يتأتى بطريقة تقليدية مسئومة تتمثل في تسول جماعي، يقيت يوما، ويفقر الدهر كله!!
أمّا أن الإضراب مسيّس لأن الاتحاد رئاسته في الضفة فذلك فيه تقزيم لدور النقابات في الجامعات المختلفة، وكأن الجامعيين يسيطر عليهم سائس واحد لا يريهم إلا ما يرى وما يريهم وفق ذلك إلا الرشاد حتى لو كان ضلالا... إن القرار تصنعه النقابات مجتمعة، ولقد كان لنقابة العاملين في الجامعة الإسلامية دورها البارز في وضع السياسات والإجراءات، واتجهت إلى تقنينها وفق الواقع المحيط، ووضعت ضمن مطالب الاتحاد مخصصات الجامعة الإسلامية وضرورة عدم حرمانها منها، وإعطائها لها وفق النسبة المقررة، وذلك بموافقة مشكورة منه ومحسوبة له.
وأيّ ضرر يصيب الطلاب وهم يجدون اليوم من يمهد الطريق لمعيشة كريمة، يحيون غدا في ظلالها عندما يقتحمون غمار الحياة العملية والوظيفية، كما يجدون اليوم مستوى جودويا للعاملين في مؤسستهم، يمنحهم عطاء أفضل، وينعكس على جودة المخرجات التي يعدّون من أهم مكوّناتها.
ينبغي أن يتذكر الجميع أننا نتحدث عن عاملين في الجامعات لا عاملين في رياض أطفال، مع التقدير الشديد لكلٍّ في ميدان عمله أيّا كان... فهل نتذكر ذلك جيدا؟!