كراديتش وأمثاله
كراديتش وأمثاله:
فمنهم من قضى نَحبَهُ ومنهم من ينتظر
نوري بريمو
جريدة الصباح الجديد
أخيراً وبعد إنتظار طال أمده قرابة (13) عاماً من رحلة إختفاء وملاحقة لزعيم صرب البوسنة السابق رادوفان كراديتش الذي بقي متوارياً عن الأنظار وفاراً من وجه العدالة الدولية منذ عام 1996م وحتى الحين الذي زَفتْ فيه الرئاسة الصربية نبأً ساراً رسم البسمة على شفاه البوسنيين وخاصة ذوي الضحايا منهم...، مفاده أنّ قوات أمنها تابعت وإعتقلت الجلاد الهارب وأحالته مقبوضاً عليه إلى قاضي تحقيق محكمة جرائم الحرب في العاصمة بلغراد، على خلفية مسؤوليته المباشرة عن قتل وتشريد عشرات الآلاف من مواطني البوسنة الذين تعرّضت ديارهم الأمنة لحرب عرقية ضارية دارت رحاها بين سنتي (1992 و 1995) ولمجازر عنصرية جماعية يُندى لها جبين البشرية وخاصة الأوربيين الذين تفاجأوا لما يجري في البوسنة وأبدوا بالغ أسفهم مما إقترفته أيادي زبانية كراديتش الذي يُعتبَر أحد أعتى وأبرز طغاة القرن العشرين على الإطلاق، وقد لاقى هذا الإعتقال ترحاباً عالمياً واسعاً لأنه يُعتبَر بادرة خير وحسن نية من من قبل الجانب الصربي الذي أظهر تعاونه الإيجابي مع الأسرة الدولية لإستكمال شروط الإنضمام للاتحاد الأوربي الساعي لتوفير فرص تحقيق المصالحة في دول غرب البلقان.
وللعلم فإنّ مثول كراديتش حالياً أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي لمواجهة 11 تهمة، أبرزها تورّطه المفضوح في عمليات التطهير العرقي وجرائم لا إنسانية وانتهاكات لقوانين الحروب وغير ذلك من المشينات، قد أسدل الستار على إحدى أشدّ الحُقَبْ الظلماء في عالمنا المعاصر وبشكل خاص بمنطقة البلقان التي قد تشهد هدوءاً نسبياً من الآن فصاعد، لأنّ هكذا مشهد محاكماتي ميداني قد يتحوّل إلى بداية مكاشفاتية جريئة لمحاكمة أي حاكم فاشي كان أو لا يزال يتحكم بمصير سكان أية بقعة في جغرافية معمورتنا التي تستحق أن يسودها السلم والعدل والإنصاف، وبهذه المناسبة ليس بوسع الإنسان سوى أن يعبّر عن رأيه للقاصي والداني ويقول: سَلمَتْ أيادي العدالة الدولية التي ينبغي أن تأخذ مجراها الطبيعي، مع التأكيد بأنّ ديموقراطيي دنيانا المكتظة بالمظالم ومناصري حقوق الإنسان والأمم فيها، لا يشمتون بأي مقبوض عليه، حتى ولو كان هذا الشخص طاغية تلطخت يداه بدماء الأبرياء.
أما الغرابة في أمر كراديتش الماثل أمام القضاء الدولي، فتكمن في أنّ هذا الرجل الذي توحّش ماضياً وهرمَ حاضراً وسئم فراراً وإستسلم بوليسياً، لم يستفد من تجربته فقد تمظهر في قاعة المحكمة العلنية بقوة الشخصية والهداوة الشكلية التي أخفت وراءها حزناً عميقاً وهلعاً بالغاً وهواجس كبيرة باتت تلفُّ مستقبله المحاكماتي المجهول الذي قد يشهد حكماً يقضي عليه بالإعدام شنقاً في أقل تقدير نظراً لثبوت إرتكابه لفظائع بشرية لا تعَدّ ولا تحصى، والأغرب من ذلك هو أنه تشجّع وقال بدون إستحياء بأنه سيدافع عن نفسه بشكل شخصي دون الحاجة لأي محام دفاع قد يبرّر له دواعي أفعاله الدراكولية التي سفكت الدماء بلا أي رادع دنيوي أو آخروي؟، ما يعني أنّ هذا المتجبّر المهزوم قلباً وقالباً، لا يعترف بهزيمته ولا يزال يجد في نفسه الكفاءة الكافية لمواصلة نزوعه المشراني وإصراره على المضي قدماً في مسرى نصرة الباطل وإزهاق الحق.
وبهذا الصدد نعطي الحق لأنفسنا ونتساءل ونذكر ولعلّ التذكار يعلم الشطار أو غيرهم: هل في سيرة هذا المجرم الماثل حالياً كما أسلافه الذين مثلوا قبله أمام العدالة الدولية أية موعظةٍ لأي حاكم جائر مستبد هنا أو هناك ؟، أم أنّ البعض من حكامنا الشموليين لا يزالون بحاجة لدزينة من المواعظ التي توارثناها عن آبائنا والتجارب التي مرّت بها شعوبنا والمحاكم التي قضت على أمثال بينوشيت وميلوزوفيتش وصدام وإلى ما هنالك من الجبابرة الذين نالوا جزاءهم الدولي العادل؟!.
في كل حال يبدو مفيداً جداً الإستئناس بالحكمة القائلة: العِبْرةُ لِمَنْ إعتبَر وإسترشَد!؟، وأيضاً: كلُّ شاةٍ معلّقةٍ بعِرْقوبها!!، بقي أن نستفسر:هل هنالك ثمة حاكم جائر آخر سيمثل قريباً في مشهدٍ قضائي آخَر لتنطبق عليه روحية الأية القرآنية الكريمة:.."فمنهم من قضى نَحبَهُ ومنهم من ينتظر"...، أم أنّ طريق إسقاط ديكتاتورياتنا لإعتاق شعوبنا ودمَقرَطة بلداننا، هو طريق سالك بصعوبة نظراً لتراكم المظالم التي تزال تفعل مفاعيلها الدكتاتورية بلا حساب، ما ينبغي مراكمة النضال السلمي الهادف للتغيير الديموقراطي المنشود.