العبث الكبير على الساحة الفلسطينية

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

من الواضح أن عملية العبث على الساحة الفلسطينية الناتجة عن ممارسات حماس وفتح الميدانية ، شاركت في محاولات تدمير الذات الفلسطينية عن غير قصد ، إلا أنها أصبحت ملموسة لكل مبصر ، وعودة إلى الوراء قليلا ، فلم يكن إعادة انتشار قوات الاحتلال  في قطاع غزة فيما عُرف بالانسحاب ، إلا من أجل مخطط بات واضح المعالم وذلك من خلال مجريات الأحداث المتصاعدة على الساحتين الفلسطينيتين في غزة والضفة الغربية ، وبغض النظر قليلا عن التحليلات والتصورات حول الانسحاب أو إعادة الانتشار ، من حيث أنه بداية انكسار للمشروع الصهيوني في المنطقة أو غير ذلك من الاجتهادات في الرؤى ، إلا أنه من الواضح أن صراعنا مع العدو الصهيوني ومن سار بفلكه هو صراع أدمغة وعقول مفكرة ، ويأتي ذلك الصراع ضمن قدرة طرف من طرفي الصراع ( الشعب الفلسطيني من جهة ، والمشروع الصهيوني ومن يسبح في فلكه من جهة أخرى ) على فهم طرق وآلية تفكير الطرف الآخر ، فالطرف الذي ينجح في فهم طبيعة تفكير وثقافة عدوه ، هو الذي يمكنه من اكتشاف نقاط ضعف عدوه ، ومن ثم النفوذ من خلال نقاط ضعفه إلى جسده ؛ لتحقيق أكبر درجة ممكنة من تدمير ذاته بكل مقوماتها .

كان لانسحاب قوات الاحتلال من غزة أثرا كبيرا على حركة المقاومة الإسلامية حماس ، فهي وفق رؤيتها وافقت على خوض الانتخابات تحت سقف أوسلو ، وتحولت من خندق المعارضة إلى خندق الحكم ، وما ترتب على ذلك من أحداث متلاحقة حتى اليوم ، ولم يكن انزلاق حركة حماس إلى مربع الانتخابات والمسرح السياسي ، نتيجة رؤية علمية ومنهجية دقيقة ، بل كان ذلك وفق حسابات خاصة بحركة حماس ، ناتجة حتما عن طبيعة تفكيرها وتصورها وثقافتها ، وتحليلها لمعطيات الأوضاع السياسية الراهنة ، ولست هنا بصدد محاكمة أو تشريح هذه الخطوة التاريخية للحركة ، بقدر ما أردت أن أسلط الضوء على حالة العبث الكبيرة التي أوصلت الشعب الفلسطيني بالجملة إلى درجة بالغة الخطورة في تدمير الذات الفلسطينية بكل مقوماتها ، ليس فقط على أيدي حركة حماس بل على أيدي حركة فتح والتي تتحمل الجزء الأكبر من المسئولية في ذلك .

ولا شك أن حركة حماس نجحت نجاحا ملحوظا في تحقيق بعض الانجازات التي لا يمكن تقزيمها ولا إنكارها على الصعيد الداخلي ، سواء كان ذلك من حيث التعبئة والإعداد والتسليح ، أو من حيث تخفيف حالة الفلتان الأمني وبناء أجهزتها والحد من وتيرة الفوضى المجتمعية وغير ذلك من الأمور الواضحة ،  ولكنها بالمقابل أخفقت إخفاقا ملحوظا في عدم قدرتها على تحقيق أي ٍ من استحقاقات المرحلة ، والأكثر من ذلك أنها أدخلت شعبها في المزيد من دوائر المعاناة والألم ، مما أدى إلى بلورة حالة ما في الوعي الفلسطيني أدت إلى الشعور بضعف جدوى تلك الانجازات أمام التحديات القائمة والمعاناة اليومية المستمرة للإنسان الفلسطيني ، بل والأعظم من ذلك حالة اليأس من الفريقين الكبيرين على الساحة الفلسطينية ، من خلال عدم قدرتهما على تخطي هذه المرحلة الحرجة من تاريخ نضال شعبنا .

فحركة فتح وقعت في خطأ كبير عندما لم تتمكن من وزن حركة حماس على حقيقتها منذ البداية ، وأخفقت في قراءة الأمور بشكلها الصحيح ، وتعاملت مع جميع المعطيات القائمة باستخفاف ولا مسئولية ، و بردات فعل غير مدروسة وبعيدة عن منهجية سياسة تؤهلها إلى كيفية التعامل مع حركة فتية شابة متصاعدة  ، كما رفضت التسليم بنتيجة الانتخابات ، وحاولت تقويض الحكومة المنتخبة وبرنامجها ، ورفضت الأجهزة الفلسطينية التعامل مع حركة حماس كحكومة شرعية ، مما أدى إلى طفرة تصعيدية حادة جدا من قبل حركة حماس ، فأنشأت جهاز التنفيذية ، وأن حركة فتح بهذه الممارسات لا بد من أن تتحمل الجزء الكبير من المسئولية لما آلت إليه الأوضاع ، وبذلك شاركت مشاركة فاعلة أيضا في تدمير الذات الفلسطينية ، مما يعني أن الطرفين اشتركا في تدمير الذات الفلسطينية مشاركة قوية عن غير قصد كما قلت أعلاه .

تخلل تلك الحقبة  شهور عجاف ، وسيطرت أخيرا حماس على قطاع غزة ، ودخلت الساحة الفلسطينية بتطبيق سيناريوهات جديدة ، اعتقالات وقمع وخطف ومداهمات ، و محاولات تفجير في غزة نجح بعضها وأخفق البعض الآخر ، وحدثت اشتباكات مؤسفة بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي ، وبين حركة حماس وجيش الإسلام ، وبين حركة حماس وعائلات كبيرة في غزة .

بات واضحا أن كل ما سبق هو أعمال عبثية تؤدي تدمير للذات الفلسطينية ، وأن الانسحاب الإسرائيلي من غزة لم يكن عشوائيا ، بل كان منهجيا مخططا له في إطار صراع الأدمغة والعقول ؛ لزج الساحة الفلسطينية في أتون لهيب الخلافات الداخلية ، فلقد نجح العدو في فهمنا ، كما نجح في كيفية تتبع خطى تفكيرنا ، عندما أعدّ لنا هذا الشرك المحكم الذي وقع في حباله الفريقان ( فتح وحماس ) ، ولا أعتقد أن الكيان سيقوم بعملية اجتياح لا كامل ولا جزئي لقطاع غزة ، لأنه لم يعد في حاجة إلى ذلك ، على ضوء التفجيرات السابقة في غزة ، وتفجيرات شاطئ غزة الأخيرة ، وعمليات التصفية الداخلية ، والاشتباكات المسلحة بين القوى الفلسطينية ، والله أعلم بما هو آت .

لا شك أن كل ما يجري يصب في مصلحة الاحتلال ، فالعدو معني بإضعاف السلطة في الضفة الغربية وليس في انهيارها أو حلها ؛ لأن ذلك لا يخدم أهدافه ولا مصالحه ، كما انه معني في تكريس حالة الانقسام الداخلي ، وهو معني أيضا في حفظ حدوده مع غزة ، فلم تتمكن السلطة من حفظها قبل ذلك  كما هو الحال اليوم ، وهذا لا ينقص في الحقيقة من قدر ووزن حماس لأن الحرب خدعة والسياسة مكر، فإسرائيل تحتاج إلى جهة قوية قادرة على لجم الأمور ومن ثم التعامل مع هذه الجهة بشكل أو بآخر .

أعمال العبث كثيرة والذات الفلسطينية يتم هدمها بطرق شتى ، ومعاول الهدم كثيرة ومتنوعة أصابت النسيج المجتمعي والفكر الشعبي ، فمن تعبئة خاطئة إلى تحطيم عوامل الصمود ، إلى عدم استيعاب الآخر ومحاولات شطبه وإلغائه ، وغياب الوعي والتربية الصحيحة وتجسيد ثقافة الحقد لدي الفريقين ، أدى كل ذلك إلى أن تسير القضية الفلسطينية في طريق مجهول ، والسلطة الفلسطينية لا تستطيع نزع اتفاق مع الكيان ، والعدو لا ولن يقدم للشعب الفلسطيني شيئا ، والحل الوحيد هو ضرورة كسر الحاجز النفسي عند الفريقين الفلسطينيين المتصارعين ، ولجم العناصر المتطرفة في كل منهما ، والجلوس فورا إلى طاولة المفاوضات لبحث آليات الخروج من هذا المأزق التاريخي ، وضرورة الاتفاق على مشروع المقاومة والصمود ، فقد استنفذت كافة الأساليب السياسة التي لم تجد ِ نفعا لشعبنا ، وعلى قيادات العمل الوطني والشعبي والمؤسساتي ورجال الفكر والقلم أخذ دورهم ، وإن لم يحدث ذلك كله بإرادتنا ، فلننتظر طفرة ربما تفاجئ الجميع ، سواء في غزة أو في الضفة الغربية ، كما حدثت طفرات من قبل لم تكن في حسابات الكثيرين ، والله اعلم بكيفيتها ونتائجها ، ومن الخطأ الاتكال على رؤيتنا وتحليلاتنا كما اتكلنا من قبل ؛ فسقطنا في سوء حساباتنا ؛ لذلك فإنني أدعو الفريقين إلى التفكير عميقا وكسر الحاجز النفسي ، وتوقع ما لم يكن في الحسبان قبل فوات الأوان ؛ من أجل عدم السقوط من جديد .