حالة "داعش" تدعونا لتفكير عميق..

حالة "داعش" تدعونا لتفكير عميق..

عقاب يحيى

سهل جداً أن نعزي وجود، وسيطرة، واستمرار، وانتصارات داعش لقصة المؤامرة والآخرين.. وتحميلهم مسؤولية إيجادها، ودعمها..أو ما تستخدمه من تكتيك يبدو مشبوهاً بألوان من التواطؤ مع النظام السوري، أو في فشل " التحالف الدولي" بتحقيق أيّ من الأهداف الكبرى التي أعلنها..أو في سرّ هروب الجيش العراقي للمرة الثانية بتلك الطريقة المخزية.. أو ما حدث في تدمر .. وما يحدث في حلب.. ومناطق كثير تفتح شهية الاتهام.. والاكتفاء بقصة التصنيع، أو الوجه الآخر لنظام الفئوية والإجرام.. بينما عديد الوقائع تثقب تلك الآراء في صميمها، وتدعونا للإحاطة الأشمل بأسباب تغول هذه الحالة وهي تصبح ظاهرة غرائبية.. تستعصي ـ حتى الآن ـ على جميع القوى التي تعلن الحرب عليها..بل نراها وهي تفتح جبهات كثيرة وتحقق تقدمات كبيرة، وتنزل خسائر كبيرة في خصومها ..

ـ سيقال الكثير عن نوعية الخبرات الموجودة.. المتراكمة منها وتلك النوعية التي رفدت هذه الظاهرة، خاصة من أوربة، وغيرها من بلدان مارست حرب العصابات، والتقدم التكنولوجي، والاختراقات المهمة في الأنترنيت، والتنصت، وفي درء مخاطر القصف والمناورة.. أو ما يحكى عن وجود قيادات عسكرية خبيرة من ضباط الجيش العراقي السابق الذي حلّوه، ورموا آلاف الضباط للامتهان، والتصفية، والجوع، والهجرة، والحقد.. أو عن كمّ الموروث في عمليات التفجير، والانتحارية، واختيار الأهداف التي توقع أكبر الخسائر بالعدو، أو بالنجاح في تصدير الخوف والرهبة والدعاية التي باتت من أهم الأسلحة التي ترعب الآخر، وتؤدي إلى انهيار معنوياته.. أو ما يحكى عن مؤامرة إيرانية محبوكة، بالتواطؤ مع العميل الطائفي الشهير المالكي..إن كان باتجاه خلق المبررات الكافية لغزو إيراني جديد مجحفل للعراق، يمر عبر الحاجة، والتأكيد على ضعف الجيش العراقي المهلهل، والمفتقر إلى التماسك والعقيدة القتالية، وإدخال مليشيبات الحشد الشعبي الطائفية لتفعل فعلها الإبادي، التهجيري، كما هو حال محافظة صلاح الدين على العموم، وتكريت بوجه الخصوص، أو إضعافاً للمنافس العبادي ـ رئيس الحكومة ـ وإظهاره كضعيف، وعاجز، وفاشل ...

ـ سيقال الكثير، أيضاً، عن المشروع الأمريكي، بنكهة صهيونية، لتمزيق المنطقة كلها، وإغراقها في شتى أنواع الحروب التدميرية، خاصة الطائفية، والإثنية منها، ورسم خرائط جديدة تنسف"سايكس ـ بيكو" وتقيم أوضاعاً أكثر تذرية، وضعفاً.. وبعد عشرات السنوات من مطاحن الحروب المُستدامة..

ـ وعن ضعف سيد البيت الأبيض، وما عرفته أمريكا من تراجع في دورها العالمي، خاصة في منطقتنا، إن كان ذلك بفعل الفشل الذريع في أفغانستان والعراق، وتحويل العراق إلى قاع صفصف تنعق فيه بوم الطائفية الحاقدة، والتقسيم الواقعي، والتفسيخ، والفساد..أو عبر رهانات على توافق مع إيران تكون على حساب الأمة العربية، وثورات الربيع العربي، أو من خلال سياسة عرجاء لا ترى في الظواهر سوى الانتقائية الملغومة ..

ـ وكذا حرص إيران الشديد على وضع العراق إما تحت السيطرة الإيرانية الكاملة، وإلا منع وحدته، واستعادة أنفاسه باعتباره الركيزة الساس في مواجهتها، والذي أذاقها المرّ، والسمّ الزعاف في حربهما الطويلة، وأجبرها على التسليم بالهزيمة، وقبول وقف إطلاق النار.. لذلك تعمل بكل السبل كي يبقى العراق منهكاً، مستنزفاً، متصارعاً إثنياً ومذهبياً...

ـ يمكننا أن نعدد الكثير من العوامل والأسباب، وان نبحث في ظواهر فاقعة عن الذي يجري.. وعن شكل" الفوضى الخلاقة" التي بشّرونا بها قبل سنوات، والشرق الأوسط الجديد..وما ينشر عن دول التقسيم، وحروب التشقيف التي ستطال جميع البلدان العربية، وبالأخصّ منها : مصر والمملكة العربية السعودية.. حين لا يبقى للأمة أي ظهير، أو ركيزة.. فتصول وتجول فيها مشاريع الآخرين..إن كان منها المشروع الإيراني الطموح، أو الصهيوني اللئيم، أو الأمريكي، والغربي ..

لكن، ومع الأخذ بالاعتبار مجموعة هذه الأمور في تشكيل لوحة الوضع الراهن، ونشوء، وقوة داعش، يجب التوقف عند واحدة من أهم العوامل، ألا وهي : الحاضنة الشعبية.. على ضوء ردّات الفعل التي تطال بشكل مخصوص "العرب السنة"، والتي تضعهم، وبشكل قصدي، ومنهج، بين حجري رحى قاتلة . الموت أو الاصطفاف مع داعش طلباً للجوء، والحماية، وحتى الانتقام ..

ـ إن إصرار الولايات المتحدة على توجيه ضربات"تحالفها" على" الدولة الإسلامية" فقط.. دون النظام السوري الذي يقوم يومياً بأفعال إرهابية ـ إبادية تفوق جرائم داعش، وعبر وسائل قتل جماعية تستهدف المواطنين.. مقابل توجيه دعم كلي لحكومة العراق الطائفية، ومليشياتها الحاقدة لقتل السنة العرب وتهجيرهم، وتطهير وجودهم من مناطق عديدة.. والاشتراط على بضعة الآلاف الذين تدربهم من السوريين على قتال داعش فقط دون النظام.. ومقايضات الملف النووي الإيراني.. جميعها تؤدي إلى التفاف فئات شعبية مهمة حول داعش، وعلى الأقل : رفض الاشتراك في قتالها.. رغم فعلها الشنيع، والمشبوه في توجيه سلاحها ضد قوى المعارضة، وفي طعن المقاتلين في ظهورهم : معارك القلمون وحلب..الآن ..

ـ وبالوقت نفسه فإن الفعل الطائفي الحاقد ضد الشعب السوري، ودخول مليشيات حزب الله، وكثير من قوى طائفية مسعورة.. وصولاً إلى ما يشبه الاحتلال الإيراني، والاستنجاد بآلاف الشيعة من باكستان وأفغانستان وغيرهما.. لقتل الشعب السوري، وإنجاد نظام مجرم يتهاوى..هي عوامل تقوية لداعش، وعوامل رفد كبير لها من مجاميع شعبية لا تجد سبيلاً لحماية أرواحها، وعرضها، وممتلكاتها سوى هذا السبيل، ويكفي هنا التذكير بما حدث للمواطن العراقي في محافظة صلاح الدين على يد" الحشد الشعبي"، أو أوضاع مئات آلاف اللاجئين من الأنبار الذين ترفض الحكومة العراقية دخولهم.. كي نفهم ما يقدّم من عون لداعش.. وهو ليس عفويا بالقطع، بل جزء من رؤى استراتيجية للأطراف الفاعلة في المنطقة .. تحقيقا لمشاريعها المعروفة .

ـ إن مواجهة الإرهاب عملية شمولية يجب أن تتناول جميع أطرافها، وفي مقدمتها : المليشيات الشيعية الطائفية، والنظام المجرم..وحكومة العراق..إلى جانب داعش بالطبع.. والمواجهة الناجعة لا يمكن ان تقتصر على الجانب الحربي وحسب، بل إن إسقاط النظام السوري، وتمكين الشعب من الانتقال إلى الدولة الديمقراطية سيكون العامل الحاسم في تقويض أسس مهمة في وجود، وقوى وارتكاز الإرهاب. كما أن وجود حكومة وطنية في العراق تعبّر عن فئات الشعب العراقي، ووحدته بعيداً عن الطائفية والمحاصصات الإثنية والمذهبية، وإقامة مصالحة حقيقية مع البعثيين والوطنيين العراقيين، وإعادة ضباط الجيش العراقي إلى الخدمة.. عوامل مهمة على طريق تجفيف المياه حول داعش وإنهاء وجودها كظاهرة شاذة مخالفة للدين، والشرائع جميعها، ولحرية الإنسان وسعيه في بناء دولة الحق والعدل والمساواة..