بصراحة.. الرحلة الحزينة
يوم أمس السابع والعشرون من تموز.. وبعد صراع مع أزمة صدرية ألمت بي طرقت خلالها أبواب عدد من المستوصفات السورية والعربية في مدينة كيليس التركية التي أقطن بها، والتي تضم بين جنباتها وفي أحيائها ومخيماتها ما يزيد على 65 ألف لاجئ سوري، وقد ساقتني أقداري للعيش فيها منذ ما يزيد على سنة، فراراً من براميل الأسد بعد فرارنا الطويل من قيده (33) سنة، علّي أجد طبيب الاختصاص الذي يشخص حالتي ويصف لها الدواء الناجع الذي يشفيني (الشافي هو الله)، أو يوقف الأزمة التي أنهكت جسمي، وأنا الذي كنت على الدوام أحمد الله على الصحة التي أنعم بها وقد تجاوزت السبعين من عمري.
ومع كل الاحترام والتقدير للأطباء الذين خضعت لتشخيصهم، إلا أنني كنت أجد صحتي من سيء إلى أسوأ كون كل أولئك الأطباء لم يكونوا من أصحاب الاختصاص، ولم تكن مستوصفاتهم تملك الأجهزة الحديثة التي تساعد في تشخيص المرض.
وبعد إلحاح من الأقرباء والمعارف قمت بزيارة مستشفى كيليس الحكومي بالساعة السابعة والنصف صباحاً – كما نُصحت – وكان بصحبتي إحدى بناتي الشفوقين بي والأقرب إلى قلبي، فليس هناك من ولد إلى جانبي يمكنه أن يقوم بهذه المهمة، فالبعض منخرط في الثورة حتى شحمتي أذنيه ومنهم آثر العيش خارج البلاد بعد تجربة مريرة وأليمة مع بعض الفصائل المقاتلة بعيداً عني.
فوجئت عند دخول المستشفى، وكانت المرة الأولى لي، أن هناك المئات ممن سبقوني وتسوروا حول مكاتب التسجيل بينهم العجائز والصبايا والمسنين والشباب وبينهم أطفال يعبثون بكل ما حولهم أو يعرقلون تحركات المرضى في ممرات المستشفى.
توجهت إلى أحد الكراسي التي أعدت لجلوس المرضى، وبقيت ابنتي تواصل الصراع مع كل هذا الحشد الكبير غير المنظم، فالفوضى والمحسوبية والتزلف والتملق ثقافة زرعها نظام الأسد في جسد مجتمعنا السوري، الذي صاغ أول أبجدية وأول حضارة في التاريخ وأول مدنية عرفها الإنسان.
كنت أسمع الصريخ وألمح المدافشة دون تمييز بين امرأة او رجل، وتراكض الأولاد وزعيقهم في الميدان، وبقيت على هذه الحال حتى تمكنت ابنتي، وبعد نحو ساعتين، من حجز دور لي لدى الطبيب المختص.
نصحتني ابنتي بالعودة إلى البيت للاستراحة لأنه لن يأتينا، كما قالت، الدور قبل ساعتين وهذا مرهق لصحتي.
عدنا إلى البيت وبقينا حتى العاشرة والنصف ثم عدنا إلى المستشفى فوجدنا أن دورنا بدأ، وكنت كلما أهم بدخول العيادة ينهرني الممرض قائلا: يوق.. لازم ترجمان، فأعود إلى كرسي الانتظار في الميدان وتذهب ابنتي هنا وهناك تبحث عن ترجمان فيعدها البعض بالمجيء لاحقاً ولا يأتي، والبعض الآخر يعتذر لكثرة التزامه بمرافقته لعدد كبير من المرضى.
ووجدت فرصة سانحة وهممت بدخول العيادة بعد مشاهدتي للممرض وقد غادرها في مهمة على ما يبدوا، فتصدى لي أحد المرضى الأتراك ودفعني بقوة خارج العيادة، قائلا: يوق.. لازم ترجمان.
وعدت إلى كرسي الانتظار حتى اقتربت الساعة من الثانية عشرة وهو توقيت الاستراحة عند الإخوة الأتراك في كل دوائر الدولة ومنها المستشفيات، فتح الباب بعد خروج أحد المرضى الأتراك فاندفعت باتجاه الطبيب وقدمت له الهوية مع كرت الدور، وكان الطبيب شكل جسمه شكل مصارع وأنا من هواة متابعة حلقات المصارعة فتوسمت خيراً به وهذا ما حصل.
قام مشكوراً بتشخيص مرضي بحرفية عالية واهتمام واضح، ثم أعطاني ورقتين صغيرتين كل منهما إلى جهة لمتابعة تشخيص حالتي (الأشعة وفحص النفس) ورحت أبحث مع ابنتي في أروقة المستشفى عن المكان الصحيح الذي علينا أن نقصده، ولكن رحلة العذاب بدأت حيث بدأ وقت الاستراحة، وكان علينا الانتظار لأكثر من ساعة حتى يبدأ العمل.
تمكنت بعد جهد من دخول غرفة الأشعة التي بدورها تقوم بإرسال الصورة إلى الطبيب المختص،
ورحنا نبحث عن غرفة فحص النفس فوجدناها، وكنت كلما أهم بدخول الغرفة كان صراخ الممرضة وبشكل همجي يعانق أركان المكان، وعند الثانية إلا ربع دعتنا ندخل، فوجدت أن الغرفة لا يوجد بها أي مريض، وقامت بفحصي بأسلوب همجي مرافقاً بصراخ صك أذني، وأخذت النتيجة لأعود إلى الطبيب المختص ليصف لي الدواء، وبدأت رحلة ثانية من العذاب، فمحظور علي دخول العيادة إلا بصحبة ترجمان، وكان العثور على الترجمان كمن يفتش عن إبرة في كومة قش.
عدت إلى كرسي الانتظار المقيت ورحت أتلصص بنظراتي إلى الطبيب كلما فتح باب العيادة، فقد تفلح لغة العيون أحياناً دون لغة الكلام والتخاطب، إلى أن التقت عيناي بعينيه، وقد اقتربت الساعة من الثالثة بعد الظهر، فلمحت رضاً على وجهه وابتسامة متواضعة على فمه، فانطلقت مسرعاً إليه وقدمت له نتيجة فحص النفس، وقام بدوره بفحص صورة الأشعة التي سبقتني إليه، وقام بوصف الدواء وأعطاني (الراشيتة) وهو يبتسم قائلاً: هذا ببلاش، ولم تستغرق تلك العملية أكثر من دقيقتين، فشكرته وغادرت المستشفى بعد الساعة الثالثة، وكنت قد وصلت إلى حالة من الإعياء لا يمكن تحملها وخاصة من رجل طاعن في السن كحالتي، حيث ألقيت بنفسي على كرسي الانتظار مجدداً لأستعيد أنفاسي، ومن ثم استجمعت قواي وتوجهت إلى بيتي.
سرد هذه االحالة التي تعرضت لها ليس الهدف منها صياغة قصة أدبية قصيرة أستعطف بها قلوب من سيقرأها، ولكن هدفي أن تكون تلك الحالة برسم الائتلاف والحكومة المؤقتة، التي أنفت عن الانزلاق فيما انزلق إليه البعض، في تجريح وتخوين هذه المؤسسة التي أحسبها وطنية، ولكنني بعد اليوم لن أكون مدافعاً عنها، وأقول صراحة (إنها لا تمثلني).
وسوم: العدد 626