لماذا الديكتاتور ظاهرة أبدية؟ ولماذا وجوده ضرورة للنظام العالمي؟
يقرأ التاريخ يعلم بأن ظاهرة (الديكتاتور) قد وجدت منذ بدء الخليقة، واليوم وبعد آلاف السنين، مايزال صاحبها، كالفئران والصراصير، وكمهنة الدعارة، موجوداً ويتجدد باستمرار ولايوجد مايبشر بزواله في المستقبل القريب. وبالرغم من اعتراف العالم بأن هذه الظاهرة سيئة ومقرفة وشريرة ويجب القضاء عليها، إلا أنها باقية، فما سر استمرارها منذ الأزل إلى يومنا هذا؟
لنبدأ أولاً بالتمييز بين النوعين الرئيسيين للديكتاتور: (التابع)، والذي يكون مدعوماً من قوى خارجية عظمى، دولية أو إقليمية، لوظائف معينة عليه إدائها، وهو نوع لايمكنه الاستمرار في الحكم بدون ذلك الدعم الخارجي. ومن الأمثلة عن هذا النوع الأسدين الأب والابن والقذافي ومبارك والسيسي وصالح وبن علي وكاسترو وشافيز وشاوشيسكو وغيرهم من حكام دول العالم الثالث. من ميزات دول هذا النوع أنها تكون مرتعاً للفساد والتخلف والفقر وأيضاً عدم وجود قانون ولاحقوق إنسان. أما النوع الثاني فهو الديكتاتور (المتبوع)، والذي يملك قوة عسكرية وتكنولوجية واقتصادية ضخمة تمكنه من توظيف حكام الدول الضعيفة والمتخلفة لخدمة مصالحه وبالتالي لايخضع لاملاءات الغير، بل هو من يملي، ومثال هؤلاء ستالين وماوتسيتونغ وبقية حكام الصين وروسيا في العصور الحديثة، ونابليون وبقية ملوك وأباطرة أوربة وآسيا في العصور الوسطى، وملوك الفراعنة والرومان واليونان والفرس وغيرهم في العصور القديمة. وكما نرى، فهناك فرق كبير بين النوعين، فالأول يتلقى الأوامر وينفذها، واستمراره في الحكم متوقف على تنفيذ تلك الأوامر من جهة وعلى قمعه وإرهابه لشعبه من جهة ثانية، أما الثاني فيصدر الأوامر لغيره من الحكام، واستمراره في الحكم متوقف على قمعه وإرهابه لشعبه فحسب.
إذا عدنا إلى سؤالنا: كيف يمكن لهذه الظاهرة الشريرة والدموية الاستمرار إلى اليوم، ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، وقد وصل العالم إلى ماوصل إليه من سن القوانين وتشكيل المنظمات (أمم متحدة ومجلس أمن وحقوق إنسان ...) ولكن أيضاً من ثورة الاتصالات بحيث إذا (عطس) شخص في أي مكان يمكن نقل (عطسته) على الهواء مباشرة إلى كافة أنحاء العالم. وبالتالي كيف يمكن لهولاء الحكام الذين ينطبق عليهم لقب (ديكتاتور) أن يقوموا بمجازرهم وجرائمهم بحق شعوبهم وغير شعوبهم، ثم يبقون على كراسيهم وكأن شيئاً لم يحصل، ويبقى العالم، وخاصة الغربي والذي يدعو نفسه أيضاً بالعالم الحر والمتمدن، يبقى يدعوهم بألقابهم، مثل سيادة الرئيس أو جلالة الملك أو سمو الأمير، ويبقى يعترف بهم ويزورهم ويستقبلهم ويقيم معهم العلاقات التجارية والاقتصادية والسياسية وكأنهم لم يفعلوا شيئاً؟ الجواب على هذا السؤال يختلف مابين نوعي الديكتاتور الآنفي الذكر، فاذا كان من النوع (التابع) فان (تبعيته) وولائه لأسياده في الدول الأجنبية هو مايحميه من القوى المنافسة وكذلك من شعبه إذا ماثار ضده. وقد نجد ديكتاتوراً من هذا النوع مدعوماً من المعسكرين الرئيسيين، الشرقي والغربي، في آن واحد: طرف يدعمه علناً، والطرف الآخر سراً لاعتبارات وتوازنات سياسية. وأكبر مثال على هذا النوع هو نظام الأسد في سورية والذي يدعمه المعسكر الشرقي علناً كونه يؤمن له القواعد العسكرية والامتيازات الاقتصادية، ولكنه مدعوم أيضاً وحتى الصميم من المعسكر الغربي لأنه يحافظ على أمن وأمان ربيبته إسرائيل، أما نظام مثل نظام القذافي، فقد كان محسوباً على الشرق فقط، وبن علي ومبارك كانا محسوبين على الغرب فقط، فتمت إزالتهما بجراحة (تجميلية) فحسب.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هنا: نفهم لماذا يؤيد المعسكر الشرقي (الروس والصين) الديكتاتور الذي يدور في فلكه، فهو في الأصل معسكر ديكتاتوري ولايقيم وزناً لحقوق الانسان، وبالتالي فمن يعامل شعبه كقطعان الماشية، لايستغرب أن يدعم ديكتاتوراً يفعل نفس الشئ مع شعبه. ولكن ماذا عن المعسكر الغربي والذي يعلن نفسه ليلاً ونهاراً بأنه حامي حمى حقوق الانسان والقانون والحريات والديمقراطيات، فكيف نراه لايتردد في دعم حكام من شاكلة مبارك وصالح، وأيضاً شاه إيران والجنرال فرانكو الاسباني والجنرال بينوشية التشيلي والذين لايقلون إجراماً عن حكام كانوا أو مازالوا محسوبين على المعسكر الشرقي مثل كيم إيل سونغ الكوري الشمالي وابنه وحفيده وبول بوت الكمبودي وتيتو اليوغسلافي وشاوشيسكو الروماني. إن السر في دعم الغرب (المتمدن) لهؤلاء الحكام السفاحين أمر في غاية البساطة: لو أن هناك أنظمة ديمقراطية في دول العالم الثالث التابعة لهذا الغرب لما استطاع الأخير استغلالها بالسهولة التي يقوم بها في ظل الأنظمة الديكتاتورية، وبالتالي فان هذا الغرب مدين بثروته وقوته بشكل أو بآخر لديكتاتوريات دول العالم الثالث والتي هي كما سبق وأسلفنا كالكلاب الوفية لصاحبها والتي تسهر على حماية مصالحه طالما أن الأول يضمن لها أسباب البقاء ولاينساها بالعظام. لابد من التنويه هنا بأن تشبيه (الديكتاتور) بمخلوق وفي ونبيل كالكلب فيه ظلم للكلب، ذلك أن (الديكتاتور) قادر على إنزال مصائب وكوارث بالانسانية لايقدم عليها أي مخلوق آخر، ومانيرون في الماضي القديم وهتلر وستالين وماوتسيتونغ وبينوشيه والأسد الأب في الماضي القريب والأسد الابن والسيسي والخامنئي في الحاضر إلا خير أمثلة على ذلك. كما وأن لاستمرار وجود (الديكتاتور) بنوعيه فائدة ثانية لحكومات المعسكر الغربي (المتحضر) لكي يستمر بتذكير وتمنين شعوبه بالحرية والديمقراطية التي ينعمون بها والغير متوفرة في الجانب الآخر، وبالتالي ليسكت تلك الشعوب حين يقرر شن حروب خارجية لخدمة مصالح شركات معينة لاتخدم بالضرورة المصالح الوطنية للبلد والشعب، وحرب فيتنام وغزو العراق خير مثال.
إذاً فنحن مانزال نرى (الديكتاتور) مستمراً في الوجود إلى يومنا هذا إما بسبب الامكانيات الهائلة، العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، التي يتمتع بها ويوظفها لقمع وإرهاب شعبه، كالحال في الصين وروسيا، وإما بسبب الدعم الخارجي له للوظائف التي يقدمها لداعميه كحال الدول العربية ودول العالم الثالث عموماً. هذا كله بات مفهوماً، ولكن ماذا عن (الديكتاتور) الذي يحظى بدعم شرائح واسعة من شعبه؟ هناك مثل شائع يقول (القط يحب خناقو)، ويبدو أن ثنائية (التخلف والفقر) حين تصيب الناس (القطط) تجعلهم يحبون (خناقهم)، أي يصبحون غير قادرين على التفكير بالشكل الصحيح، ولذلك نراهم يؤمنون بالخرافات ويفكرون بقلوبهم بدلاً من عقولهم. هذا النوع من البشر من السهل قيادته في أي اتجاه، ومن السهل إقناعه بنظرية (القائد الملهم) لأنه شعب تربى على قصص من شاكلة (ودخل عنترة بين الفرسان فصرع ألفاً بسيفه وجندل ألفاً برمحه)، حتى بات هذا الشعب يخلط بين تلك القصص وبين الواقع. وهو شعب خدع بحاكمه (الديكتاتور) لدرجة أنه بات يسامحه حتى حين يخسر الأخير المعركة ويخسر الأرض، ويقبل منه أن يلعب بالتسميات، كأن يسمي الهزيمة نصراً، أو مجرد نكسة، والهروب إعادة إنتشار، والتخاذل تحضيراً لهجوم سيتم في الزمان والمكان المناسبين والمطالبة بالحقوق مؤامرة وارتكاب المجازر محاربة للارهاب وغيرها.
إذاً ومن كل ماسبق، لاأعتقد أن ظاهرة (الديكتاتور) ستزول قريباً، فطالما أن هناك صراعات بين الدول العظمى على المصالح ومناطق النفوذ، ستبقى هذه الدول بحاجة (الديكتاتور) ليضم بلده إلى معسكرها مقابل المعسكر الآخر أو ليساعدها في تحقيق أهدافها. وطالما أن هناك دولاً قوية تريد أن تحصل على خيرات الدول الضعيفة بصورة أقرب إلى النهب، فهي أيضاً بحاجة (الديكتاتور) ليساعدها على ذلك. وفي النهاية، وطالما توجد شعوب تعاني من (التخلف والفقر) وأيضاً من الطائفية، سيبقى (الديكتاتور) يمثل لها (القائد الرمز)، فإذا مارحل أحدهم، سارعت ووجدت بديلاً له وحملته على الأكتاف، وماحالة بن علي بعد بورقيبة والبشير بعد النميري وبشار بعد حافظ والسيسي بعد مبارك والخميني والخامنئي بعد الشاه وقاصر كوريا الشمالية بعد أبيه وجده إلا خير أمثلة على ذلك.
وبالتالي وبالرغم من أن مخلوقات كالفئران والصراصير تبدو مقرفة ولكن لها دور في توازن الطبيعة، فكذلك من الواضح أن للحاكم (الديكتاتور)، وبالرغم من شره الذي لايختلف عليه اثنان، فيوجد له أيضاً دور لايستغنى عنه في توازن الصراعات الدولية والقائمة أصلاً على (شريعة الغاب) وأيضاً على (الطمع) المتأصل في الطبيعة البشرية وثنائية (الجهل والتخلف) التي ماتزال تحكم الملايين.
وسوم: العدد 629