المال السياسي هدم الحياة الحزبية وأنهى دور الأحزاب !!
(ان شخصا فردا، أصبح قادرا ان يهزم حزبا سياسيا تاريخيا بتنظيمه وإعلامه ورجالاته!!)
ما هو دور المال السياسي في التأثير على نهج الأحزاب العربية في إسرائيل؟ هل خدم المال السياسي أي مشروع وطني، اجتماعي، ثقافي، تعليمي، صحي أو اقتصادي للجماهير العربية؟
هل باستطاعة أي مواطن عربي ان يشير إلى مضمون ايجابي واحد أنجزه المال السياسي للمجتمع العربي؟
عشت الحياة السياسية منذ شبابي المبكر. تثقفت في حركة سياسية تنويرية كانت تشكل النواة الطليعية في الفكر والثقافة بين الجماهير العربية. طبعا اعني الحزب الشيوعي بقيادته التاريخية التي تشكلت من أبرز المثقفين والمناضلين العرب منذ سنوات العشرين للقرن الماضي.
ماذا تبقى اليوم من ذلك التنظيم؟ من فكره مثلا؟ لا تقولوا لي الماركسية هي التي كانت وما تزال محوره الفكري. هذا قول لا علاقة له بالواقع. كانت ماركسية ذلك الجيل ماركسية إنسانية تمد التنظيم بروح رفاقية من التعاضد والتعاون والتكافل. ذلك النهج تلاشى منذ وقت طويل ويمكن القول مع انتهاء الدور التاريخي الذي لعبته الطليعة السياسية.
إني أدعي ان المال السياسي كان الجرثومة التي أنهت الحياة الحزبية من مجتمعنا. انظروا اليوم وبدون رأي مسبق إلى واقع الأحزاب العربية. ماذا تجدون عدا أسماء أعضاء كنيست شبه معزولين عن حياة أعضاء أحزابهم (ونسبيا عن مجتمعهم ايضا) ويعتبرون من الفئات التي تشكل رأس السلم الاجتماعي - الاقتصادي في إسرائيل؟
طبعا نحن اليوم أمام ظاهرة شاملة لنهاية حقبة الأحزاب السياسية، هذه الظاهرة أكثر بروزا في الدول الأوروبية، خاصة بما يتعلق بأحزاب الحركة الشيوعية، حيث نجد أنها تحولت إلى مجرد مكاتب وبعض الممثلين البرلمانيين. هل سمعتم مثلا خبرا عن حزب شيوعي فرنسي؟ أو ايطالي؟ عن موقف أي منهما من أحداث عالمنا؟
اليسار يفقد مكانته ليس لأنه يسارا إنما بسبب أخطاء فكرية دأب عليها لوقت طويل لم تقد إلى انجاز أي مطلب اجتماعي أو اقتصادي. نحن واجهنا نفس العقليات السياسية، التي دأبت على التمسك بمواقف فكرية فقدت مشروعيتها الحياتية. التمسك بمقولات نظرية وفلسفية تجاوزها التطور العاصف للنظام الرأسمالي وللفكر الفلسفي عامة، دون ان يحاولوا فهم مضمون التغيرات، ضرورة تطوير فكرهم وفلسفتهم وتنظيمهم بما يطابق التطور التاريخي السياسي، الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات المعاصرة.
طبعا هذا جانب واحد من الأزمة، الجانب الذي أود ان اطرحه هو تدفق المال السياسي على الأحزاب بأساليب وكميات غير مسبوقة..!!
استطيع ان أقول انه لم يقم أي تنظيم سياسي إلا على قاعدة مالية. المال لم يكن لأهداف سياسية أو ثقافية أو اجتماعية، إنما من اجل بقاء التنظيمات وتغطية نشاطاتها وكسب شعبية تقوي مكانتها السياسية وسط الجماهير العربية.
السياسات كانت طبقا لهدف جوهري:الكسب السياسي!
ليس مهما المستوى الثقافي التي يتمتع به الجمهور، الأهم كسب الأصوات. ويبدو ان المنطلقات كانت، إننا نحن قادة هذه الأحزاب لدينا من الثقافة والمعرفة ما يكفي شعبنا كله، الشعب ليس بحاجة للمزيد من الوعي والتثقيف، نحن المثقفون نقرر له مصالحه.هذا يذكرني بقائد شيوعي قال مرة في محاضرة له: "الحزب الشيوعي يحتاج الى عمال وليس الى مثقفين لأنه مليء بالمثقفين لدرجة التشبع"!!
اعترف ان نهج الحزب الشيوعي في بداياته وحتى سنوات السبعين كان مختلفا، ويعتمد على تطوير وعي كوادره، مدهم بالفكر والمعرفة . هذا الدور تلاشى وانتهي مع نهاية دور الطليعة السياسية.
المرحلة الجديدة منذ نهاية الثمانينات رافقها بداية تدفق المال السياسي، من الواضح ان الأشطر والأبرع في التجنيد كان عزمي بشارة، وهو بسبب هذا المال السياسي "غادر وطنه قسرا" الى مليارات قطر!!
الأحزاب الأخرى أيضا لم تفتقد لمصادر تمولها، ملايين الدولارات تدفقت على الأحزاب، انتهى العصر الذي كان الحزب يعيش من اشتراكات أعضائه وحملته المالية ، انتقلنا إلى مرحلة التخمة من المال المتدفق. انتشرت الجمعيات أيضا، لكن يجب التمييز بين جمعيات تقوم بمهام معروفة ومحددة وتجمع الميزانيات لها، وبين أحزاب جعلها المال تبتعد عن قواعدها السياسية ويضمحل تنظيمها، ويتشقق إلى كتل ذات مصالح.
عندما تزداد الفجوة بين قادة الأحزاب وكوادرها، يفقد الحزب حياته الحزبية الداخلية بين أعضائه. تتعمق الغربة. لا يمكن ان استوعب ان يعيش قائد حزب وصل بفضل أعضاء حزبه إلى منصب سياسي أو بلدي، ويتمتع بمعاش مرتفع جدا ، يجعله من الفئات الأولى في السلم الاقتصادي – اجتماعي في الدولة، وبين موظفين في نفس الحزب لا يجدون قوت يومهم بمعاشات منخفضة لا تساوي سدس ما يتمتع به قادة حزبهم. اكثر من ذلك هناك تقلص بعدد موظفي الأحزاب. لأن التوزيعة الاقتصادية داخل الحزب هي توزيعة رأسمالية، حسنا نرفضها فكريا، لكننا نطبقها بكل قوتنا. وفرة في المال وسوء في التوزيع، لكنه سوء مخطط لصالح المتحكمين بالصناديق!!
لم تعد الصيغة الطبقية صالحة لتعريف الأحزاب. لا تحدثوني عن حزب طبقة عاملة مثلا، لا أجدها في قيادة الحزب ولا في علاقاته الداخلية بين قادته وكوادره. لا تحدثوني عن يسار سياسي أو وطني كل مشاغله إقامة صناديق لتجنيد الأموال.
أقام احد الأحزاب مثلا مؤسسة للثقافة. تلقت ملايين كثيرة من مصادر عديدة..بما فيها مصادر فلسطينية بهدف تنشيط الحياة الثقافية. ماذا أنجزت؟ أي مشروع ثقافي تركته في مجتمعنا بحيث يمكن ان نتذكرها به؟ دار لنشر الإبداعات المحلية مثلا؟ دعم للمسرح الذي بتنا نفتقده؟ دعم لفرق الفنون الموسيقية والراقصة؟ دعم لفن الرسم والنحت؟
هل استخدمت بعض هذه الأموال مثلا لدعم مشروع تنويري في المدارس العربية؟ هل استخدمت مثلا لتطوير مكتبات عامة أو مدرسية؟ هل استخدمت في دعم مؤسسات صحية في مجتمعنا عبر شراء تجهيزات ضرورية؟ هل جرى تزويد طلاب فقراء بحواسيب يفتقدونها في بيوتهم ؟ هل كرست بعض هذه الأموال في دعم دراسات طلابنا في الجامعات، وكلنا نعرف ما يعانيه الشاب العربي من مشاكل مادية ولوجوستية معقدة؟
المال السياسي كان له هدف جوهري أساسي، الحفاظ على التنظيم من مفهوم تمجيد القائد، الصرف على الانتخابات والكسب السياسي المباشر وغير المباشر. بدأنا نفتقد لمضمون التنظيم الثوري. القريب من الصحن يرى بالتنظيم موضوع حياة أو موت، جيبته هي مبادئه!ّ
الكادر البسيط بدا يمل ويبتعد. النشطاء انفضوا وأقاموا تنظيمات مستقلة تمول نفسها من أعضائها، الفساد أصبح سائدا، القيادات السياسية لم تعد تمثل إلا نفسها.
هل يمكن ان ننظر إلى قادة الأحزاب كقادة للوسط العربي؟!
من هنا أرى ان المال السياسي لم يبن بقدر ما هدم، وبقدر ما سيهدم!!
من هنا نرى الصورة التي بدات تتشكل، بان شخصا فردا، لا يملك حزبا ولا أموالا سياسية ولا تنظيما حزبيا ولا كوادر معبئة فكريا وتنظيميا، أصبح قادرا ان يهزم حزبا سياسيا تاريخيا بتنظيمه وإعلامه ورجالاته!!
كتب لي الكاتب ، الناقد والمحاضر المتقاعد من السوربون، الدكتور افنان القاسم ملاحظة هامة رأيت ان اضيفها للمقال: "على الرغم من انهيار الحزب الشيوعي الفرنسي إلا أنه لم يزل يطبق نفس القاعدة على نوابه: نصف رواتبكم لكم ونصف للحزب، ومن ناحية ثانية لم نسمع منذ نشأة الحزب الشيوعي الفرنسي عن أية فضيحة مالية على عكس الأحزاب الأخرى البورجوازية التي أزكمت فضائحهم الأنوف، الحزب الشيوعي الفرنسي يعتمد أكثر ما يعتمد على الدعم المادي لأعضائه، وعلى عيد سنوي لجريدته -لومانيتيه- مفتوح لكل الشيوعيين ولكل المتعاطفين"!!
وسوم: العدد 630