الحماية الجنائية للحق في حرمة المسكن
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
وجود السكن الذي يأوي اليه الانسان يعد من أهم الحاجيات الأساسية التي لا غنى عنها ويكون لهذا المكان حرمة خاصة ويوفر له القانون حماية مشددة، والمسكن هو المكان الذي يتخذه الانسان محلاً للإقامة فيه بشكل دائم أو مؤقت سواء أكان مملوكاً له أو ملكاً للغير وهو يملك الانتفاع به، وتلحق به توابع المسكن كالحديقة أو الكراج وغيرها شريطة ان تكون تابعة له ومتصلة به اتصالاً مباشراً، ويوفر القانون حماية للمسكن بسبب انه يعد مستودع اسرار الانسان ويضم بين جنباته الاشياء الخاصة به.
كما أن حرمة المسكن تتصل بشكل مباشر بالحق في الخصوصية يصبح الاخير في مهب الريح ان لم تحفظ حرمة المسكن، فلا يجوز دخول المسكن بدون اذن صاحبه وهو الامر الذي ارساه المشرع السماوي قبل الف واربعمائة سنة تقريباً لقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ۞ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ۞".
الدساتير الوطنية لاسيما في العراق كان لها موقف واضح من التأكيد على حرمة المسكن إذ ورد في دستور جمهورية العراق لعام 2005 نص المادة (17/1- لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الاخرين والآداب العامة 2- حرمة المساكن مصونة ولا يجوز دخولها أو تفتيشها أو التعرض لها الا بقرار قضائي وفقاً للقانون)، والملاحظ ان منهج المشرع الدستوري كان موفقاً في تأكيده اولاً على حق الخصوصية ثم الحق في حرمة المسكن لكونهما يكمل بعضهما البعض ولا يمكن الفصل بينهما والجمع بينهما في مادة واحدة يظهر العلة في التأكيد على حرمة المسكن لتعلقها بحق الخصوصية.
وقد اعتاد المشرع الدستوري العراقي على التأكيد على حرمة المساكن في الوثائق الدستورية المتعاقبة في صيغ مختلفة إذ أكد ذلك قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004 في المادة(15/ب- لا يجوز انتهاك حرمة المساكن الخاصة من قبل الشرطة أو المحققين أو السلطات الحكومية الاخرى...الا إذا اصدر قاضي أو قاضي تحقيق حسب القانون المرعي اذناً بالتفتيش...)، كما أن دستور العراق لعام 1970 هو الاخر التفت للأمر بالمادة (22/ج–للمنازل حرمة لا يجوز دخولها او تفتيشها الا وفق الأصول المحددة بالقانون).
والملاحظ أن الضمانات في دستور 1970 كانت هزيلة جداً إذ اشترط المشرع مراعاة الأصول المحددة في القانون وهو ما يعطي الاجهزة القمعية آنذاك اليد الطولى في دخول منازل الأفراد والعبث بها لكون القوانين الخاصة بهم تسمح بذلك.
كما أكدت المواثيق الدولية حرمة المسكن إذ ورد في الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948 نص المادة (12/لا يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو اسرته أو مسكنه..) أورد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 نصاً مماثلاً في المادة (17/لا يجوز التدخل بشكل تعسفي أو غير قانوني بخصوصيات أحد أو بعائلته أو بيته أو مراسلاته)، ولعل هنالك من يتساءل عن السبب وراء الحماية المؤكدة وطنياً ودولياً لحرمة المسكن؟.
والجواب ان المشرع انما يتدخل ويضع نصوصاً تصون الحقوف والحريات بسبب تعلقها بالمصالح الأساسية التي تخص فرد معين أو مجموعة من الأفراد فالحقوق فردية أو جماعية وطنية أو عالمية هي مصالح معتبرة جديرة بالحماية وكل انتهاك لها هو خرق للقانون يسم عمل من قام بذلك بعدم المشروعية سواء أكان سلطة عامة ام فرد عادي، لاعتدائه على النظام العام للمجتمع وأعرافه وتقاليده وعرض مصالح الأفراد للخطر الأمر الذي ينعكس سلباً على السلم الاجتماعي أولاً وعلى الأمن الشخصي للأفراد ثانياً.
لهذا تتزايد أهمية الحماية الجنائية لحرمة المساكن وهي تأخذ في هذا الاطار معنى محدد يقوم على حماية مصلحة معتبرة جديرة بالحماية الجنائية المشددة، فمن المسلم به إن من أهم واجبات السلطات العامة حماية الأمن الاجتماعي على المستوى الفردي والجمعي لضمان أمن الأفراد واستقرارهم ولا يتم هذا الأمر إلا من خلال إصدار القواعد القانونية التي تتضمن أوامر وانواهٍ وعقوبة تفرض على من لا يلتزم بها.
وهذه القواعد لا شك انه تنطوي في بعض الأحيان على تقييد لحرية الأفراد الا انها في الوقت عينه تنطلق من مصلحة أعم وأشمل وهي مصلحة عامة ومشتركة لجميع أفراد المجتمع في أن يأمن الفرد في منزله وهذا المنهج يعرف في فقه القانون الجنائي بالسياسية الجنائية التي يختص المشرع برسمها عبر قواعد قانون العقوبات والقوانين الجزائية الاخرى وهي كأصل عام ينبغي أن تقوم على أسس وضوابط من أهمها التوازن بين مقتضيات حق الدولة في العقاب لمنع الجرائم التي تقلق النظام الاجتماعي وقمعها إن وقعت وحماية الحقوق والحريات الفردية التي تمثل مصالح معتبرة.
إذن نحن أمام تحد تشريعي لحماية حرمة المساكن بين ضرورة حفظ الأمن ومنع الجريمة التي يستغل البعض المساكن المأهولة لارتكابها أو للتخطيط أو للتحضير لها كتخزين اسلحة أو ما شابه، فلابد للسلطات العامة من ان تقوم بمراقبة تلك المساكن المشبوهة وتفتيشها، وبين حق الفرد في صيانة أسراره الخاصة وحقه في الخصوصية بان لا يطلع أحد ما على اسراره أو يكشف حياته الخاصة في المنزل ومحل عمله، من جهة أخرى من واجب القضاء التحري عن الجرائم وتقتضي ضرورات التحقيق تفتيش بعض الاماكن التي يجد قاضي التحقيق أو المحكمة امكانية للعثور فيها على أدلة اثبات أو نفي الجريمة المسندة لشخص ماK وهو الأمر الذي يمكن المحكمة من معرفة مرتكب الجريمة لانزال العقاب به.
وفي خضم هذه التحديات نجد المشرع العراقي نظم في قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 اجراءات التفتيش وقد راعى المشرع فيها إلى حد ما المنهج الدستوري الضامن لحق الخصوصية في المساكن حيث نستطيع ان نحصي أهم الضمانات التي تكفل هذا الحق وكالآتي:-
أولاً// السلطة المختصة بإجراء التفتيش:-
حيث حددت المادة (72) كل من قاضي التحقيق والمحقق وعضو الضبط القضائي أو من يخوله القانون ويقصد المشرع بذلك القوات المسلحة أو قوى الامن الداخلي التي تخولها القوانين التي تنظم عملها في الاوقات العادية والاستثنائية سلطة التفتيش، الا اننا نجد ان حصر سلطة التفتيش بالقاضي والمحقق يكفل إلى حد ما حقوق الأفراد لكون هاتين الشريحتين هم من المؤهلين اكاديمياً ومهنياً.
ثانياً// دوافع واسباب التفتيش:-
أوردت ذلك المادة (75و76) من قانون أصول المحاكمات الجزائية بان لقاضي التحقيق أن يقرر تفتيش أي شخص أو منزله أو أي مكان آخر في حيازته إذا كان متهماً بارتكاب جريمة ان تبين للقاضي بناءً على اخبار أو قرينة أن المسكن يستغل لحفظ مال مسروق، أو ان المنزل يحتوي الأشياء التي ارتكبت بها أو عليها الجريمة كالأوراق والاسلحة، واحتمالية وجود شخص محجوز بغير حق، أو يوجد شخص هو من أرتكب الجريمة.
ثالثاً// ضمانات تفتيش مساكن المواطنين:-
أوضحت المادة (82) من قانون أصول المحاكمات الجزائية هذه الضمانات والتي من أهمها حصول التفتيش بحضور المتهم أو صاحب المنزل وحضور شاهدين مع المختار وأن ينظم القائم بالتفتيش محضراً يدون فيه اجراءاته وزمان ومكان التفتيش والاشياء المضبوطة وأوصافها واسماء الأشخاص الموجودين ويوقع المحضر من قبل الحاضرين.
وأضافت المادة (86) ضمانة للأفراد بان لهم الحق في الاعتراض على اجراءات التفتيش لدى قاضي التحقيق وعلى الأخير ان يفصل بالاعتراض على وجه السرعة.
ولاكتمال الحماية الجنائية لحرمة المسكن لابد للمشرع من معاقبة من يدخل المساكن بغير اذن صاحبها سواء أكان فرداً عادياً أم يمثل إحدى السلطات العامة بدون اتباع الاجراءات القانونية السليمة فقد ورد في قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل النص صراحة في المادة (444) على معاقبة من يدخل محلاً مسكوناً أو معد للسكن أو احدى ملحقاته لغرض السرقة بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس، كما عاقب المشرع في المادة (428) كل ينتهك حرمة المساكن ولو كان يحمل الصفة الرسمية وجرى نص المادة بالشكل الاتي ((يعاقب بالحبس مدة لاتزيد على سنة....أ- من دخل محلاً مسكوناً أو معد للسكن أو أحد ملحقاته وكان بدون رضا صاحبه وفي غير الاحوال التي يرخص فيها القانون بذلك، ب- من وجد في محل مما ذكر متخفياً عن أعين من له الحق في اخراجه منه، ج- من دخل محلاً مما ذكر بوجه مشروع وبقي فيه على غير أرادة من له الحق في اخراجه منه.
الاستنتاجات:-
1- ان الحماية الجنائية للحق في حرمة المسكن تأخذ طابعاً شخصياً إذ أن القواعد القانونية التي استعرضناها في اعلاه تظهر الوجه الفردي للحماية، والمشرع الجنائي يقصد من وراءها حماية المراكز القانونية الشخصية الخاصة وبالتحديد الحق الشخصي بحرمة محل الاقامة ويعاقب كل من ينتهك ذلك ويدخل ملك غيره بلا اذن ولا صفة رسمية ويشدد العقاب ان كان محل الاعتداء دار مسكونة من قبل الأفراد أو معدة للسكن كما يشدد أكثر وأكثر ان كان المعتدي يحمل صفة رسمية او يستغل نفوذ سلطته الوظيفية أو اساءة استعمال سلطته ونفوذه المستمدين من وظيفته وفق ما نصت عليه المادة (136) من قانون العقوبات العراقي.
2- ان الحماية الجنائية في حرمة المسكن تأخذ طابعاً موضوعياً تحقيقاً للمصلحة العامة كون جريمة انتهاك حرمة مساكن الغير تتضمن العدوان على المصالح الاجتماعية العليا لمساسها بأمن المجتمع وضرورة اطمئنان الأفراد على حياتهم الخاصة وحرمة اموالهم بكفالة حق الخصوصية لهم.
3- نظم قانون أصول المحاكمات الجزائية حماية شكلية لحق الأفراد في حرمة المسكن عندما حدد وبشكل دقيق الجهات التي يؤذن لها استثناءً اختراق الحق في حرمة المسكن وان تأمر بتفتيشه، كما بين الجهات التي لها ممارسة حق التفتيش واسباب ذلك الاجراءات واجبة الاتباع، وقصر المشرع اسباب التفتيش في البحث عن الجرائم ومرتكبيها فقط، كما أوجب القانون العراقي على القائم بالتفتيش بإجراءات شكلية حتمية كحضور صاحب المنزل والمختار والشهود وتنظيم محضر...الخ، واي اهمال لهذه الضمانات يسم العمل بعدم المشروعية ولا يمكن الركون إلى ما تم التوصل اليه من نتائج، بل يعطي الحق كاملاً لصاحب المسكن برفع الدعوى الجزائية ضد من انتهك حرمة مسكنه واطلع دون وجه حق على حياته الخاصة.
4- نظم قانون العقوبات العراقي حماية موضوعية لحرمة المسكن تتمثل بمعاقبة من ينتهك حياة الناس الخاصة ويطلع دون وجه حق على خصوصيتهم.
التوصيات:-
1- ان قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 تضمن اشارات يمكن استغلالها من قبل البعض كما حصل أبان النظام الدكتاتوري السابق الامر الذي أدى وقد يؤدي للعصف بحق الأفراد في حرمة المسكن إذ ان المادة (73) اجازت تفتيش الأشخاص والاماكن بناءً على أمر صادر من سلطة مختصة قانوناً وهذ يحد من ضمانات المواطن تجاه حقوقه وحرياته فنطالب بتعديل النص ليكون مصوغاً بالشكل الذي لا يقبل التأويل أو التفسير في ان المختص بالأمر بالتفتيش هو قاضي التحقيق حصراً والمحكمة المختصة.
2- سمحت المادة (72) ان يقوم بالتفتيش قاضي أو محقق أو عضو الضبط القضائي أو من يخوله القانون، والخشية كل الخشية من ان يستغل النص للتعسف باستعمال السلطة من قبل بعض المتنفذين للاعتداء على حرمة مساكن المواطنين ونرى ضرورة النص صراحة على ان التفتيش لا يتم الا بواسطة القاضي أو المحقق حصراً لضمان المهنية والحيادية والمعرفة بالقواعد القانونية الضامنة لحرمة المساكن وحق الخصوصية.
3- نعتقد ضرورة تشديد العقوبة الواردة في المادة (428) من قانون العقوبات على من ينتهك حرمة مساكن الغير إلى الحبس مدة لا تقل عن (3) سنوات والغرامة التي لا تقل عن (50) مليون دينار أو بإحدى العقوبتين لضمان حرمة المساكن بفرض عقوبة رادعة، كما نرى ضرورة اضافة فقرة جديدة للمادة اعلاه بتسلسل (د) يكون نصها الآتي ((ويعاقب بالسحن مدة لا تقل عن (7) سنوات ان كان مرتكب الجريمة أحد افراد القوات المسلحة أو قوى الأمن الداخلي أو موظفاً أو مكلفاً بخدمة عامة استغل سلطة وظيفته لانتهاك حرمة مساكن الغير بلا مسوغ قانوني)).
4- أهمية تنظيم حملات تثقيفية لأفراد القوى الامنية والمسلحة لتعريفهم بحقوق الانسان والحريات الاساسية التي كفلها الدستور والقوانين أو المواثيق الدولية ذات العلاقة للحفاظ على الحقوق والحريات المقررة للمواطن العراقي أو المقيم في العراق، والتذكير بالعقوبة التي تطال كل من انتهك هذه الحقوق أو الحريات.
وسوم: 641