تقسيم كوردستان عودة من جديد

في الجغرافية السياسية يعد الموقع من أهم المقومات الجيوستراتيجية التي يعتمد عليها في تقويم قوة الدولة بسبب تأثيره الواضح على وضع الدولة الحالي ومستقبلها، على الرغم من الاتجاه العام الذي يدعو إلى تقليل هذه الأهمية بسبب عوامل عديدة منها، التطور التقني الذي يكتنف عالم اليوم،  لان الموقع الجغرافي ليس مجرد ارض تقل أهميتها بالتطور الحاصل في ميدان الأسلحة وقدرتها التدميرية بل يتكون من مجموعة عناصر ذات إبعاد  داخلية تتمثل باللغة والثقافة والمكونات الاجتماعية والكثير من المكونات الاخرى ذات الابعاد الانتمائية الواحدة، فضلا عن السمات الطبيعية المتمثلة بطبيعة الارض وتضاريسها وحتى الطقس فيها، وبعدها تأتي الابعاد إلاقليمية والدولية باعتبارها موردا من موارد الثروة القومية وفي بعض الأحيان يكون رأس المال الوحيد للدولة، وعلى هذا الاساس تبنى التصورات وتتخذ الاجراءات من اجل اقامة كيانات مستقلة حسب الكثير من الروايات التاريخية السابقة التي تشكلت منها العديد من الدول.

وحين نقف عند عتبات التاريخ نجد بأن الدول والكيانات المستقلة تشكلت معالمها الاساسية بالقليل من تلك المحددات السابقة بحيث اكتفت بعضها بالمحددات العرقية، وبعضها القومية، وبعضها التزمت بالمحددات الطبيعية واتخذت من امتداد الجبال والانهار مساراً لتحديد جغرافيتها، فضلا عن اليات اخرى كالمذهب الديني او القومية، على انه اغلبها لم تستطع ان تحوي جميع المحددات معاً الا ما ندر منها.. وبالتالي كانت تحقيق كياناتها المستقلة متوقفة على اسس اخرى مصلحوية للقوى الرئيسية في العالم وقتها وفي عالمنا الحديث.

وعند تأمل قضية كوردستان سنجد بأنها استطاعت منذ بدايات التقسيم الدولي للمناطق بعد الحرب العالمية الاولى ان تستوفي الكثير من السمات والمحددات السابقة الذكر وان لم نقل كلها، فالمحددات المتعلقة بالعنصر الكوردي العرقي والقومي والاجتماعي واللغوي والثقافي والطبيعي من اتصال اراضيها ببعض عبر قنوات جبلية ومائية من انهار وبحيرات وكذلك تقارب طقسها وتشابهه في اغلب مناطقها، ومن ثم المحددات الاقليمية التي تظهر بان جميع من يجاورهم ليسوا ينتمون الى قوميتهم ولغتهم، كالفرس والعرب والترك، كل ذلك كانت ولم تزل تشكل معلماً واضحاَ على مدى جاهزية استقلال كوردستان ومدى اختلافها في جميع الجوانب والنواحي عن الدول المجاورة لها، لكن السؤال الذي كان ولم يزل يتناسل في ذهن الملايين من ابناء كوردستان هو لماذا هم وليس نحن...؟ وهذا السؤال وان كان موجهاً ايضا الى الداخل الكوردي الا انه موجه بالدرجة الاساس الى القوى المصلحوية ذات السطلة الدولية والمتحكمة بالنظام العالمي الجديد سواء عن طريق فرض نظرياتها العولمية او عن طريق سيطرتها العسكرية على الكثير من الممرات الدولية التي بامكانها ان تغير ملامحها سواء من حيث الجانب الاثني الديمغرافي او الجيوبولتيكي او حتى الملامح الطبيعية.

لايخفى على متابع منصف أن مسألة تقسيم كوردستان كان نتيجة حتمية لمؤتمر لوزان الذي عقد في 27 تشرين الأول عام 1922 في سويسرا، حيث أرسلت بريطانيا وفرنسا وايطاليا دعوة من اجل عقد هذا المؤتمر إلى حكومات الولايات المتحدة الأمريكية واليابان واليونان ورومانيا ويوغسلافيا(السابقة) وحكومة استنبول العثمانية وحكومة المجلس الوطني الكبير في انقرة  .

ومن المؤكد تاريخياً أن هذا المؤتمر عقد بعدما لم يتوصل الأطراف المعنية في معاهدة سيفر التي وقعت في 10 آب 1920 بين الحلفاء والدولة العثمانية الى اتفاق نهائي بينهم، ولم تلتزم الإطراف فيما بينها، والتي نصت المادة 62 فيها على إقامة مناطق ذات حكم ذاتي غالبية سكانها من الكورد  في إطار تركيا حسب المشروع الذي يجب وضعه من قبل ممثلي بريطانيا وفرنسا وايطاليا، وألزمت المادة 63 تركيا تنفيذ الحكم الذاتي في الواقع، حسب المشروع الذي اقترحته اللجنة، وذلك خلال فترة زمنية مدتها ثلاثة أشهر، وفي المادة 64 شرعت إمكانية توجه الكورد إلى مجلس عصبة الأمم بطلب منحهم الاستقلال عن تركيا، وفي البند الأخير لهذه المادة والتي تناول الموصل أكدت على انه من الممكن أن تنضم إلى مثل هذه الدولة الكوردية المستقلة بموافقة دول الحلفاء الكبرى وبعد تخلي تركيا عن المناطق الكوردية.

وبشأن هذه المعاهدة يقول (ف.نيكيتين) ": رغم أن معاهدة سيفر بقيت حبراً على ورق، فإنها مع ذلك تمثل منعطفاً هاماً جداً في تطور القضية الكردية، فلأول مرة في التاريخ تتعرض وثيقة دبلوماسية لبحث مسألة حكم ذاتي محلي للمناطق الكردية التي معظم سكانها من الاكراد، ومن هذه اللحظة، فان الأهمية الدولية للقضية الكردية ما عادت تثير شكوكا لأحد.."

وبعد فشل إبرام هذه المعاهدة وافق الحلفاء على قيام اليونان بأعمال عسكرية في الأناضول، وفي الوقت نفسه عقد الاتحاد السوفيتي(سابقاً) معاهدة صلح مع الكماليين وتخلت ايطاليا عن (اداليا) لقاء بعض الامتيازات، ووقعت فرنسا في 20 تشرين الأول 1921 في انقرة اتفاقية مع الوطنيين الأتراك وأخلت (كليكيا)، ثم تخلى الحلفاء عن اليونان وانتصر الأتراك عليهم في 1922.

كل هذه الأحداث أجبرت بريطانيا وفرنسا وايطاليا على توجيه هذه الدعوة الى تلك الدول من اجل انعقاد مؤتمر لوزان ، والذي افتتح في 20 تشرين الثاني 1992، وقد رأس الوفد البريطاني اللورد كرزن وزير الخارجية أما الجانب التركي فقد ترأسه الباشا عصمت اينونو وزير الخارجية ، وبعد مداولات عديدة بشأن قضايا كثيرة لعل أبرزها مشكلة الحدود ومشكلة الموصل، والتي لم تحل فأعلنت الحكومة التركية رفضها لمشروع معاهدة الصلح التي كانت قد تقررت في المؤتمر، ولكن الوفد التركي كان قد وافق على أن تقوم اللجنة المختصة بالمشاكل الاقليمية بأعمالها، وغادر الوفد التركي إلى انقرة في 7 شباط 1923، ومن ثم عاد في 24 تموز 1923 مرة أخرى لانعقاد مؤتمر لوزان، واتفق الحلفاء وتركيا على معاهدة لوزان وتم توقعيها ، ونصت الفقرة الثانية من المادة الثالثة على تعين خط الحدود بين تركيا والعراق بترتيب ودي بين تركيا وبريطانيا خلال تسعة أشهر.

ونتيجة هذه الصراعات والحتميات النابعة من السلطوية المصلحوية انذاك يتضح  أن تقسيم كردستان بات امراً اكيداً حيث كان من المقرر إقامة حكم ذاتي ومن ثم إمكانية ضم الموصل إلى دولة كوردية مستقلة وبموافقة عصبة الأمم، لكن الآن تحول الأمر إلى نزاع بين المصالح البريطانية والتركية في المنطقة، وليس يخفى على احد أن الموصل ضمت بعد سلسلة من المعاهدات إلى العراق ، ففي 5  حزيران 1926 وقعت معاهدة عراقية بريطانية تركية جاء فيها أن خط الحدود بين تركيا والعراق قد تم تعينه بصورة نهائية بالخط الذي وافق عليه مجلس عصبة الأمم(خط بروكسل)، وبموجبها وافقت تركيا على الاعتراف بضم ولاية الموصل إلى العراق مقابل تعديل بسيط في خط الحدود وحصة من نفط الموصل.

كل هذه المحصلات الدولية والمصلحوية نتج عنها طمس الكثير من المعالم التي اعتمدتها هذه القوى في اوقات متفرقة بشأن استقلال الكيانات السياسية واقامة دول مستقلة في الكثير من انحاء العالم، مما يعني انه كان ولم تزل الاداة المصلحوية هي المقياس الاساس في تشكيل الكيانات المستقلة، والا لماذا هذا الصمت الدولي على حق هذا الشعب من اقامة كيان مستقل له بعيدا عن الصراعات المذهبية العرقية القومية الشوفينية التي تنغمس فيها الدول المجاورة سواء تركيا او ايران او العراق وسوريا.. ان قيام كيان كوردي مستقل امر بات مطلباً شعبياً ليس له علاقة باجندات خارجية، والتقاعس بحقيق آمال الشعب الكوردي انما يعد بنظرنا جريمة بحق الانسانية، لكون ان هذا الشعب عانى ولم يزل يعاني من السياسات العنصرية للحكومات التي اضطر الشعب الكوردي ان يعيش تحت كنفها.. فضلاً عن ان البيشمركة الكوردية الان هم الرادع الحقيقي للتنظيمات الارهابية في المنطقة والتي ساهمت في تأجيج العنصرية المذهبية الدينية والقومية بين الفئات المتناحرة في المنطقة كلها.

وسوم: العدد 648