الذكرى المئوية لسايكس – بيكو: إعادة رسم الحدود بالدم
المصدر: "النهار"
في مثل هذه الايام قبل مئة سنة بالتمام، أنجز الفرنسيون والانكليز اتفاقهم الشهير المعروف باسم اليبلوماسيَّين الفرنسي فرنسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس لاقتسام منطقة الهلال الخصيب وغرب آسيا بعد تهاوي الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، الامر الذي مهّد لخريطة الشرق الاوسط الحالية.
ومع حلول هذه الذكرى بعد مضي قرن كامل على الاتفاق، وفي ظل هذا الواقع العربي المأزوم، تعدّدت في الفترة الأخيرة الرؤى والسيناريوات التي تحاول استشراف آفاق إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، أو الدفع في سبيلها، مثلما تجلّى في طروحات تقسيم العراق وسوريا واليمن بعد نجاح تقسيم السودان، التي روّجت لها بعض الدوائر الرسمية في بعض عواصم القرار الدولي. وبات عنوان إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط أحد العناوين الرئيسية في الكثير من التقارير والمقالات الصحافية، والأبحاث العلمية، التي تنشرها كبريات الدوريات، ومراكز الأبحاث الدولية.
خطة يينون
ويستند بعض مشاريع الخرائط المستقبلية الى خطط قديمة، هنا أبرزها:
خطة الكاتب الاسرائيلي عوديد ينون الذي عمل لفترة طويلة في وزارة الخارجية الإسرائيلية وجهاز "الموساد"، ويُعتبر من مخطّطي الاستراتيجيات في حزب "ليكود". ونشرت هذه الخطة في شباط 1982 في ذروة التحضيرات الاسرائيلية لغزو لبنان الذي كان مشرذما الى كيانات صغيرة تتقاتل في ما بينها. وكانت فكرة تقسيم لبنان تروق جدًا للإسرائيليين بشرط إعادة توزيع المجموعات الطائفية لتحقق لهم أكبر قدر من الأمن، بعد التخلص من الجيش السوري ومنظمة التحرير الفلسطينية. من هنا، نبتت في ذهن يينون فكرة "لبننة" العالم الإسلامي كله، فهي تقريبًا الطريقة الوحيدة التي قد تمكن شعبٌ صغير مثل الشعب اليهودي من حكم مساحة تمتد من النيل للفرات. وإضافة للمصلحة العقدية المادية في التقسيم الطائفي للمنطقة، رأى ييون فائدة أخرى في إرساء شرعية دولة إسرائيل، بما أن كل طائفة ستكون لها دولة، فوجود دولة يهودية يصير مبررًا تمامًا من الناحية الأخلاقية.
واعتبرت الخطة أن أهم محاور الاستراتيجية المستقبلية لإسرائيل عقب الانتهاء من لبنان، يجب أن تتركز في تقسيم العراق لثلاث دول: شيعية – سنّية – كردية، ومن بعد لبنان والعراق، مصر وليبيا والسودان وسوريا والمغرب العربي وإيران وتركيا والصومال وباكستان. استمد يينون "واقعية" مخططه من إشكالية أن الحدود العربية الحالية غير قابلة للدوام، مما يجعل الدول العربية أشبه ببيوت مبنية من أوراق اللعب: فالحدود وضعتها دول استعمارية من دون اعتبار لهويات الشعوب وتوجهاتها ورغباتها، معظم الدول العربية تضم طوائف وإتنيات غير منسجمة، وتستحوذ على الحكم في غالب الاحيان طائفة واحدة بعينها تكون في بعض الاحيان أقلية. اضافة الى وجود صراع على حدود بين معظم الدول العربية. ولم يرسم يينون خرائط لمخططه، ولكنه رأى سوريا مقسمة لـ4 دويلات. وتصور أن المغرب العربي سيُقسَّم بين العرب والبربر، أما الأردن، فاعتبره وطن المستقبل للفلسطينيين بعد سقوط مُلك الهاشميين. كما وصف الخليج العربي بـ "قصور على الرمال". ووصف ايضا مصر بالدولة الهشّة معتبرا ان الاقباط جاهزون للاستقلال بدويلتهم في الصعيد. وكشف عن اطماع اسرائيل بسيناء معربا عن اعتقاده أن أداء النظام الحاكم في مصر سيسوق البلاد لذلك الانهيار من تلقاء فساده وسوء إدارته بدون أي تدخل مباشر من الإسرائيليين.
خرائط برنارد لويس
وبعد مرور عشر سنين على هذه الخطة، سقط الاتحاد السوفياتي وتفكّك لـ15 دولة، وامتد التقسيم لتشيكوسلوفاكيا ثم تفتت يوغوسلافيا السابقة ، وتصدعت القومية العربية بعد غزو الكويت وحصار العراق ومشاركة أميركا مع عرب في قتال عرب بشكل مباشر للمرة الأولى، ثم وجودها العسكري غير المسبوق في دول الخليج واستفزازها للأصوليين في أنحاء العالم الإسلامي. في هذه الأجواء، خرجت خرائط برنارد لويس، والحقيقة أن له خريطة سابقة أصدرها في 1974، ولكنها كانت تستهدف نهش أطراف الاتحاد السوفياتي.
أما الخريطة الثانية ، فكرّسها للشرق الأوسط، وبدت وكأنها نموذج معدل لخطة يينون، في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية.
قام مشروع برنارد لويس أيضًا على تقسيم المنطقة طبقًا لخطوط عرقية طائفية لغوية، واعتبر ان غزو العراق للكويت النهاية الفعلية لسيطرة العرب على سلاح البترول. وتتفق خريطة لويس مع خطة يينون، في محو الدولة اللبنانية من الوجود وتقسيم العراق لـ3 دويلات، وضم سيناء لإسرائيل، ولكن لويس استبعد تقسيم مصر وسوريا. وركز أكثر على منطقة شرق الخليج العربي: إيران وأفغانستان وباكستان وكيفية تقسيمها. وخطة لويس لا تكتفي بخرائط صماء تستغل الصراعات الطائفية والعرقية، ولكنها اشتملت أيضًا على إشعال 9 حروب في المنطقة، الى حرب البلقان في أوروبا التي توقع أن تمتد لشرق البحر المتوسط، تلك الحروب ستسرّع عجلة تقسيم المنطقة، وبعد التقسيم تنشب حرب أخرى كبرى عربية - إيرانية بمجرد هيمنة إيران على الدويلة العراقية الشيعية. وأشار لويس الى دولتين فقط، ينبغي الحفاظ على استقرارهما وقوتهما واستقلالهما والاعتماد عليهما: إسرائيل وتركيا (العلمانية العسكرية)، إلا أن ذلك لم يمنعه من طرح تصوّر الدولة الكردية التي تقتطع جزءًا من تركيا. ومن المثير للاهتمام أن لويس تكلم عن تنظيمات إسلامية مسلحة مصنوعة في بريطانيا، وأن استبداد الحكام في الدول الإسلامية سيغذي تلك الميليشيات، مما يصبّ في مصلحة خطط التقسيم، إذ إن الانتصارات العسكرية لهؤلاء ستساهم بصورة كبيرة في إضعاف السلطة المركزية، ومن ثم تؤدي إلى سقوط الدول القائمة فقط على جبروت النظام حيث تغيب المجتمعات المدنية الصلبة التي تحفظ نظيراتها في الغرب.
وبعد 10 سنين من نشرها، وجدت رؤى برنارد لويس ضالتها في إدارة الرئيس جورج دابليو بوش التي استعانت بلويس كمستشار لها قبل غزو العراق.
"حدود الدم"
في الـ14 سنة التالية لمخطط لويس، تنامى بشكل متوازي تقريبًا اليمين الإسلامي الجهادي متمثلًا في تنظيم "القاعدة" في مقابل اليمين المسيحي- اليهودي متمثلًا في المحافظين الجدد بالحزب الجمهوري الأميركي واليمين الاسرائيلي متمثلا بآرييل شارون وبنيامين نتنياهو.
وشهدت تلك الفترة: الانتفاضة الفلسطينية، أحداث 11 ايلول، غزو افغانستان والعراق.
حينها كتب منظر المحافظين الجدد في واشنطن الكولونيل المتقاعد رالف بيترز، مقالة شهيرة بعنوان "حدود الدم" التي توفر الأمن لإسرائيل ثم جعل الأولوية الثانية لدولة الأكراد، ورأى توحد سنّة العراق مع سنّة سوريا في دولة واحدة (حدودها متطابقة إلى حد كبير مع المساحة التي تسيطر عليها داعش حاليًا)، على أن تمتد دولة أخرى علوية من ساحل سوريا لساحل لبنان، وبالطبع دولة شيعية في جنوب العراق، أما السعودية، فقد أراد أن يقسمها كالتالي:
جزء في الشمال ينضم للأردن، الحجاز يستقل كدولة مقدسات ونموذج إسلامي من الفاتيكان، السواحل الشرقية تذهب إلى شيعة العراق، جزء في الجنوب الغربي يندمج مع اليمن، وبذلك، لا يتبقى للسعوديين إلا نجد، وعاصمتهم الرياض في قلبها. كذلك يريد بيترز أن يعطي الخليج لشيعة العراق، بينما تصير دبي بمفردها دولة مستقلة من دون توجهات سياسية، وعاصمة للاعمال واللهو في المنطقة على غرار إمارة موناكو. لكنه يرفض تعزيز الهيمنة الايرانية، لذلك يوصي باستفزاز نعرات قومية (عربية- فارسية) توجد حساسيات ونوعًا من التنافس بين إيران والدولة الشيعية العربية، على أن تحيط الدولة الشيعية العربية بالخليج كالكماشة بعد انتزاع غرب إيران وضمه لها، مع إضعاف إيران أكثر بانتزاع جزء آخر منها لصالح أذربيجان وجزء لكردستان وجزء لبالوشستان التي ستُقتطع من باكستان الحالية.
خريطة "اتلانتيك"
في العام التالي لنشر "حدود الدم"، بدأ جيفري غولدبرغ، وهو من المنتمين ايضا للمحافظين الجدد داخل أروقة السياسة الأميركية، في كتابة سلسلة مقالات ترسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، على صفحات مجلة "أتلانتيك" الشهيرة، تزامنا مع إقرار مجلس الشيوخ الأميركي خطة غير ملزمة لتقسيم العراق. واضاف غولدبرغ في خريطته دولة جنوب السودان ( تأسست رسميا بعد اربع سنوات) ودولة سيناء المستقلة التي شهدت عام 2004 اول عمليات العنف. وامتدت الخريطة هذه المرة الى عمق أفريقيا بتقسيم الصومال. واعترف غولدبرغ بقوة "حزب الله" ومركزيّته في جنوب لبنان، فتصور له دولة شيعية مستقلة .ودعا الى دولة درزية في شمال الاردن وجنوب سوريا.
خرائط الربيع العربي
وبعد وصول الربيع العربي الى المآل الذي صار عليه، كثرت أطروحات أخرى لتقسيم المنطقة عبر مراكز الدراسات الاستراتيجية ومنابر الصحافة العالمية، لكنها لا ترقى كلها الى حدود المخططات لانها اقرب الى التوقعات، ولم تصدر عن دوائر القرار.
لكن ثمة وقائع على الارض تزيد من شأنها اذا ما تمادت، وتشكل اساسا ليس فقط لخطط جديدة انما لخرائط جديدة فعلية في المنطقة، وابرزها:
1 - الفوضى الناجمة عن سقوط أنظمة وتنامي التطرف المذهبي.
2 - سياسات التوازن الطائفي، التي اعتمدتها واشنطن بين إيران والدول العربية ذات الغالبية السنّية. وأدت في الواقع، إلى إثارة نعرات الصراع الطائفي ومفاقمتها، خاصة في ظل الصراع الايراني – السعودي علي مناطق النفوذ في المنطقة والذي لم تكن نتيجته سوى تعزيز قوى الإرهاب وتنظيماته إقليميا ودوليا.
3 - محاولة تأسيس نظام أمني متعدد الطرف ومتوازن في المنطقة، بحيث تلعب بعض التحالفات الإقليمية، إضافة إلى حضور مباشر من قوى دولية ذات مصالح في المنطقة، أدوارا أمنية محدودة ومتنافسة، في رعاية أميركية. وتتمثل معضلة هذه الاستراتيجية الأخيرة في أن تنافس الأدوار والأجندات الأمنية بين القوى الإقليمية يهدّد بتفجر مستمر للصراعات فيما بينها، أو بينها وبين القوى الدولية الآخذة في تأسيس مراكز أمنية جديدة لها في المنطقة.
كما تواجه دول الشرق الأوسط وشعوبها عددا متزايدا من التهديدات سواء التي تتعلق بهويتها، في ظلّ تصاعد مخاطر التيارات الأصولية الإقصائية، كجماعات عنف منظم، أو سياسات دولة تخشى قطاعا من السكان. وإذ يهدد ذلك باستمرار الصراعات المتنوعة في المنطقة، سواء بين دولها، أو بين المجموعات البشرية فيها، خاصة في الدولة التي تعاني انهيارا في أنظمتها السياسية، فإنه يمكن تحديد مصدرين للمخاطر المشتركة التي يمكن أن تواجه دول المنطقة وبقية دول العالم، جراء الأوضاع في الشرق الأوسط:
أوّل هذه المخاطر هو بروز وتمدّد ما يمكن وصفه بـ"الدويلات الجهادية"، وما تستقطبه من عناصر متطرفة وشديدة العنف من مختلف مناطق العالم ودوله. وتطرح هذه الدويلات تهديدات مباشرة يمكن إجمالها بالآتي:
اولا : تصاعد عمليات التطهير العرقي، وإعادة رسم الخريطة الديموغرافية والإثنية للشرق الأوسط، كما حدث خلال سنوات تصاعد العنف الإثني في العراق، أو بشكل أكثر جسامة وخطورة فيما تشهده سوريا من عمليات إعادة رسم للخريطة السكانية. ولكن الخطر الأكبر فيما ينتج عن عمليات التطهير تلك، أو عن تأسيس كانتونات طائفية صرف من تنامي واقع الانفصال الطائفي، وتصاعد مشاعر الكراهية الاتني.
ثانيا: مخاطر استهداف دول ومناطق أخرى تعاني هشاشة إثنية من هذه الدويلات، حال ترسخ وجودها في منطقة ما، ومن ذلك تمدد تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش) من مناطقه الحصينة في الشمال السوري إلى داخل العراق. ويتفاقم هذا الخطر مع إمكان استخدام مثل تلك التنظيمات الإرهابية من قبل بعض القوى الإقليمية أو الدولية كأداة لمد نفوذها، أو تهديد قوي منافسة أخرى.
ثالثا: احتمال تطوّر الصراع مع تلك الدويلات وحولها إلى حروب إقليمية صريحة بين دول المنطقة، إما طمعا في السيطرة علي بعض المناطق التي تخضع لسيطرة هذه الدويلات.
ويبقى الخطر الأكبر في احتمال تطرف الكثير من المتعاطفين مع أيديولوجيا الجماعات المؤسسة لتلك الدويلات، لا سيما أن مشروع هذه الدويلات بات يمثل لهؤلاء الغاية النهائية والمثالية لتصوراتهم الأيديولوجية المقدسة.
وهكذا يمكن القول إن الشرق الأوسط في الذكرى المئوية لاتفاق سايكس بيكو يقف في لحظة فارقة، لأن حدود دولنا الحالية صارت هشة بشكل يُرثى له وعرضة للانهيار في زمن قياسي. واذا ما حصل انهيار الحدود فانه لن يكون في اتجاه وحدة عربية أو إسلامية ، ولكنه سيكون قطعًا لصالح تفتيت المفتت وتقسيم الكيانات الموجودة لتلد عددًا أكبر من الدول الأصغر حجمًا.
وسوم: العدد 651