عناد محمد القيق نموذجاً في المواجهة
اثنان وثمانون يوماً ومحمد القيق مُضْرِباً عن الطعام، وعندما يُنشَر هذا المقال تكون أيامٌ أُخَر زادت على 82 يوماً إذا لم ينتصر في فرض شرطه العادل، أو إذا لم يُسْتَشْهَد دونه.
قولٌ كثير يمكن أن يُقال بهذا الموقف الذي اتخذه الشاب الصحفي الذي حُكِمَ عليه بالسجن والاعتقال بناءً على قانون الاعتقال الإداري الظالم وغير القانوني، أو المخالف لروح القانون، ولكل دستور يحترم نفسه، ولحقوق الإنسان، ولميثاق هيئة الأمم. فكيف يجوز اعتقال إنسان لمدة ستة أشهر دون محاكمة ودون إبداء الأسباب، ويمكن تجديدها بأشهر ستة أخرى إلى ما لا نهاية. فهنالك من أمضوا خمسة عشر عاماً في مثل هذا الاعتقال المتجدّد كل ستة أشهر.
بكلمة واحدة، إن هذا الإضراب عن الطعام حتى الاستشهاد يتسّم بالعدالة التي لا جدال فيها، أو ضدّها. ومن ثم حين يجعل محمد القيق هذا الإضراب حتى النصر (إطلاقه فوراً بلا قيد أو شرط) أو الشهادة، إنما يفعل ذلك ليس لخروجه من السجن فحسب، وإنما أيضاً، لإرساء تقليد حميد سبقه عليه عدّة أبطال تحدّوا "قانون الاعتقال الإداري" بالإضراب عن الطعام، وانتصروا في إجبار العدو ومحاكِمِهِ البوليسية على الخضوع خوفاً من ردود الفعل الشعبي في حالة الاستشهاد.
لقد سعى العدو الصهييوني أن يساوم لفك الإضراب بأشكال من الوعود أو التراجع الجزئي ولكن ليس بالرضوخ الكامل لمطالب محمد القيق وبلا قيد أو شرط. الأمر الذي أثار عجب الكثيرين ممن وجدوا في بعض ما عرضه العدو من مساومة مخرجاً مشرفاً، بل ونصراً لمحمد القيق. ولكن الذي "تحت العصا" كما يقال، ليس كمن، أو مثل الذي يعدّها، وهنا، بالمعنى المغاير لما يريده المثل حيث أثبت الذي تحت العصا بأنه أشدّ صلابة من الذي يعدّها. وذلك حين رفض محمد القيق كل مساومة بما فيها ما قد يُعتبَر نصراً جزئياً له، فأصرّ على أن يُطلَق فوراً، وبلا قيد أو شرط، من أجل إنزال الهزيمة الكاملة بالقانون الظالم المخزي قانون الاعتقال الإداري. وليكسر هيبة نتنياهو وعنجهيته أو يُدّفعه الثمن الغالي إذا استمر في "عناده".
هنا يمكن أن يقال الكثير في شجاعة محمد القيق وبطولته وتضحيته ومواجهته للعدو منفرداً، وهو بين يديه في الأسر مقيّداً بالأغلال و"تحت العصا". ولكن ثمة جانب يستحق التوقف عنده، والتعلم منه وتعميمه على مستوى شعبي عام في مواجهة الاحتلال والاستيطان في القدس والضفة الغربية كما في مواجهة إطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة: ألا وهو، بعد تأكيد عدالة تلك المواجهة التي هي بقوّة عدم عدالة "قانون الاعتقال الإداري"، بل هي أشد وضوحاً أيضاً، ولو على مستوى الاعتراف الدولي الذي يعترف بعدم شرعية الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية والقدس. (طبعاً كل وجود الكيان الصهيوني غير شرعي ولكن ليركز الآن على الاحتلال والاستيطان). فبعد تأكيد هذه العدالة يُصار إلى خوض المواجهة الشعبية الشاملة (الارتفاع بالانتفاضة لتصبح عصياناً شعبياً عاماً) وبالمنهجية نفسها. وذلك بجعل المواجهة عنيدة لا تقبل المساومة وتدخل في صراع إرادات. وبهذا تفرض على العدو الانسحاب من القدس والضفة الغربية وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى وفك حصار قطاع غزة بلا قيد أو شرط.
هذه الروحية في المواجهة يجب أن تتحلى بها الانتفاضة الشاملة حين ينزل الشعب بقضّهِ وقضيضه ليملأ شوارع كل المدن والقرى ويعلنها عصياناً مدنياً سلمياً ضد الاحتلال والاستيطان، ولا تكون ثمة رجعة إلا بالانتصار. علماً أن الإضراب عن الطعام الذي يمارسه محمد القيق أشدّ إيلاماً وصعوبة من إضراب شعبي شامل وعصيان لا يلين ضدّ الاحتلال، مقروناً بما ولّدته الانتفاضة الثالثة من أشكال النضال والمواجهة، بما فيها إضراب الإمعاء الخاوية وتحرّكات الأسرى والحجارة والمولوتوف والسكاكين والدهس. فباستطاعة الشعب أن يهزم نتنياهو إذا ما اتحدّت فصائله المقاوِمة والتاريخية وحراكاته الشبابية بمعركة عناد إرادات. أو ما عُرِفَ بمبارزة "عض الأصابع"، أي من يصرخ أولاً. فمحمد القيق لم يصرخ أولاً، ولن يصرخ أولاً، وعلى نتنياهو أن يرضخ هو وأجهزته الأمنية ومحاكِمِهِ وإلاّ واجه من الأخطار والخسائر ما هو أصعب عليه من الصراخ أولاً. لأن استشهاد محمد القيق سيكون له ثمن غالٍ جداً.
وهذا ما يمكن أن يحدث في استراتيجية مواجهة شعبية في انتفاضة شاملة حيث يوضع نتنياهو في موقع الذي يصرخ أولاً ويجد ذلك أقل خسائر وألماً من الاستمرار في صراع الإرادات تماماً كما يحدث له أمام إرادة كإرادة محمد القيق التي لم تَلِنْ، ولن تلين في هذه المعركة. نعم، يجب أن يوضَع نتنياهو في مواجهة انتفاضة شاملة تصل إلى مستوى العصيان المدني الشعبي العام الذي لا يلين ولا يُساوِم ولا يقبل بأيّ حل أقل من الانسحاب الكامل للجيش والمستوطنين إلى ما وراء خطوط هدنة 1948/1949، أوما يسّمى بخطوط الرابع من حزيران 1967. ويا حبذا لو ينضم أهل الجولان إلى ذلك العصيان ليكتمل النصر بتحرير الجولان كذلك.
إن الانتفاضة الشاملة العنيدة شعبياً كعناد محمد القيق ستضع نتنياهو في وضع الذي سيجد الانسحاب وتفكيك المستوطنات أقل خسارة من استمرار المواجهة، لا سيما عندما سيتحرك كل من هم خارج فلسطين وداخلها من الفلسطينيين، وكذلك يُصار إلى التحرك عربياً وإسلامياً وعالمياً لنصرة شعب فلسطين الذي لا يبرح الشوارع حتى النصر.
إن أخطر ما يمكن أن يصاب به بعض النخب أو القادة في الانتفاضة هو عدم اليقين بأن نتنياهو وحكومته يمكن أن يتراجعا عن الاحتلال والإستيطان في القدس والضفة الغربية. وذلك بسبب ما يُظهرانه من تمسّك بالاحتلال والاستيطان أو بسبب الزيادة التي حدثت بعدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس.
صحيح أن الانسحاب من القدس والضفة الغربية أصعب من الانسحاب الذي اضطر عليه شارون من قطاع غزة. وصحيح كذلك أن عدد المستوطنين في القطاع أقل كثيراً جداً من المستوطنين الآن في القدس والضفة الغربية. ولكن ثمة متغيّرات في ميزان القوى حدثت في غير مصلحة الكيان الصهيوني وحلفائه جعلت الوضع الآن أفضل مقارنة بموازين القوى التي كانت في مصلحة الكيان الصهيوني وحلفائه في العام 2005/2006. فحالة أمريكا وأوروبا اليوم أضعف كثيراً عما كانت عليه عندما اضطُرّ شارون على الانسحاب وفك المستوطنات من قطاع غزة. والأهم أن الكيان الصهيوني اليوم أكثر عزلة عالمياً وجيشه مهزوم في أربع حروب، وهنالك جوانب أخرى يمكن إيرادها لجعل الانسحاب من القدس والضفة وتفكيك المستوطنات قابلاً للتحقيق كما أصبح الإنسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات قابلاً للتحقيق بعد أن كان شارون يقول أن ذلك لن يحصل أبداً أو أنه كالانسحاب من تل أبيب.
فالمشكلة ليست بما يُعلن من موقف ولا ما يُظن بأهميته وصعوبته وإنما القول الحاسم سيكون لموازين القوى وفي ما ينتظر نتنياهو وحكومته من انتفاضة شاملة. فالمطلوب أن تصل الانتفاضة إلى إغلاق شوارع المدن والقرى والأحياء في القدس والضفة وغزة في وجه الاحتلال والإستيطان، وبعناد، كعناد محمد القيق، لا يُكْسَر، إلاّ بفرض دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى وفك حصار غزة. وذلك مهما طال الزمن وارتفعت مستويات الضغوط والوعود. ثم أضف ما سينجم عن ذلك من حراكات شعبية عربية وإسلامية ورأي عام عالمي لا تستطيع أمريكا والاتحاد الأوروبي تحمّله.
هنا ستكون معركة عناد الإرادات قادرة على إجبار نتنياهو وجيشه وحكومته على الانسحاب إذ سيجدونه أقل كلفة، وبلا قيد أوشرط، من مواصلة هكذا معركة. وهي أكبر أضعافاً عما واجهَهُ شارون.
فالنصر أكيد، بإذن الله، إذا ما خيضت معركة هذه الانتفاضة بعنادٍ لا يلين ووحدة في الميدان وإصرارٍ على كسر إرادة نتنياهو، وثقة بإمكان ذلك. فهو تلميذٌ لشارون. فالسياسة تحكمها موازين القوى وليس الرغبات أو المواقف.
وسوم: العدد 656