"الطّائفيَّة" الـ"شرق أوسطيَّة"
"الطّائفيَّة" الـ"شرق أوسطيَّة"
د. محمد عناد سليمان
لقد كانت الشُّعوب العربيَّة من أكثر شعوب الأرض تأثُرًا بـ«الطَّائفيَّة»؛ بل من أكثرهم تأصيلاً وتقعيدًا لها، حتى غدتْ دليلاً على «الهوية» أو «القوميَّة»، وأخشى أن تصبح دليلا على «العرْقِ» في خضمِّ التَّجاذبات المذهبيَّة في منطقة «الشَّرق الأوسط».
ولعلَّ مردُّ ذلك إلى النّزعة الدِّينيَّة ذات المفهوم الخاطئ للالتزام الدِّينيّ والمذهبيّ الذي يظنُّ كثيرٌ منهم أنَّه الصَّواب، والأمر الذي لا بدَّ من وقوعه؛ لقناعتهم بما ورد من أحاديث تشير إلى ذلك، ومنه قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النَّصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمَّة على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النَّار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما عليه أنا وأصحابي. وفي رواية: «هي الجماعة». وقد رواه «أبو دواد»، و«التِّرمذيّ»، و«ابن ماجه»، و«الحاكم» في «مستدركه» وقال: «صحيح على شرط مسلم».
وسعت كلُّ «طائفة» إلى القول بأنَّها هي «الفرقة» النَّاجية، وأنَّ ما سواها «كافر»، أو يسير على طريق الكفر، والدِّين لا شكّ بريء من هذه الأقوال المصطنعة، وأكاد أجزم بأنَّ ما نراه من «طوائف» يعود إلى أسباب سياسيَّة في جوهرها، ولا علاقة لها بالدِّين؛ وإنَّما اتَّخذت منه غطاء تتستَّر خلفه من أجل قبولها لدى الأوساط الاجتماعيَّة ذات الميول العاطفيّ الدِّينيّ، وقد هيَّأ الله لها ساسةً يقوون من شوكتها، ويؤمِّنون الدَّعم اللازم لها على جميع الأصعدة.
والجدير بالذِّكر أنَّ هذا الحديث وأشباهه لا يصحُّ من حيث إسناده ولا متنه، ولذلك تنكَّب «البخاريُّ» و«مسلم» عن تخريجه، على الرَّغم من شهرته وتعدُّد طرقه، وأنَّه على شرط «مسلم» كما ذكر «الحاكم» في «مستدركه»؛ بل إنَّ «ابن حزم» قد حكم بعدم صحَّته، فقال: «لا يصحُّ من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجَّة عند من يقول بخبر الواحد». ومع ذلك فقد درج بعض أهل العلم على الاعتماد عليه، فراحوا يحكمون بتكفير الـ«ثنتين وسبعين فرقة» الأخرى، كما يشير إليه «ابن تيمية» حيث قال: «فمن كفر الثّتنين والسَّبعين فرقة كلّهم فقد خالف الكتابَ والسُّنَّة وإجماع الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسان».
وإذا ما تجاوزنا معنى «الفرقة»، و«الطَّائفة»، و«الأمَّة» في ضوء «القرآن الكريم»، فإنَّنا نرى اختلافًا كبيرًا قد اعترى هذه «المصطلحات»، وغدتْ «الطّائفة» أكثر شهرة من الأُخرَيَيْن، في حين تسير «الأمَّة» إلى الاندثار، مصطلحًا وجوهرًا، وتكاد تكون «الطَّائفة السنِّيَّة» و«الطَّائفة الشِّيعيَّة» هما الأكثر حضورًا في العصر الحاضر، ويكاد ينحصر الصِّراع بينهما، وتُزهق الأرواح بين الثِّنتين، مع التَّكبير على قطع رؤوس كلٍّ منهما بحجَّة أنَّ كلاً منهما ترى نفسها «الفرقة» النَّاجية كما أشرنا سابقًا.
وفي حقيقة الأمر أنَّ كلا «الطَّائفتين» من صنع السِّياسة، ولا علاقة للدِّين بهما من قريب أو من بعيد، وإن ادَّعيا ذلك في محاولة لإخفاء القناع السِّياسيّ الذي أصبح علامة بارزة في الحروب والاقتتال الذي تشهده منطقة «الشَّرق الأوسط» خاصَّة.
وكلُّ «طائفة» منهما قد تقلَّدت أمور الحكم في بعض الدُّول ممَّا أتاح لهما قوَّة سياسيَّة، واقتصاديَّة مكَّنتهما من الرُّسوخ والاستمراريَّة، واختلط «الحابل بالنَّابل» في تمييز مذهبهما الدِّيني من مشروعهما السِّياسيّ، فـ«إيران» تكاد تكون الدَّولة «الشِّيعيَّة» المطلقة في المنطقة، وإن كانت القوة السياسيَّة لها تنحصر في الفكر «الصّفويّ» الذي كان وليد الحركة «الإخباريَّة» قبل قرون في مواجهة الفكر «التَيميّ» الذي أعادته السِّياسة «السُّعوديَّة» إلى السَّاحة بعد دفنه، وعدم الرِّضا عن منهج صاحبه في زمانه، من خلال بعض أتباعه ومتبنِّيه.
وأرى أنَّ هاتين الدَّولتين تستمدَّان قوَّتهما في منطقة «الشَّرق الأوسط» من خلال استمرار الصِّراع «الطَّائفيّ» بين «السُّنَّة» و«الشِّيعة»؛ وتحشدان كلّ الإمكانيّات في سبيل هذا الصِّراع، وجعلت لكلِّ منهما ذيولًا في بعض الدُّول كـ«لبنان»، و«سوريا»، و«العراق»، و«اليمن» وغيرها، حتى إنَّ ثورات «الرَّبيع» العربيّ لم تسلم من هذا النَّزاع، حيث تحاول كلٌّ منهما إثبات وجودها في هذه «الثُّورات» في سبيل تحقيق القوَّة «الإقليميَّة» التي تسعى كلَّ منهما إليها.
والأمر الأكثر خطورة من وجهة نظري هو الصَّراع «السُّنّي السُّنِّي»، والذي شهدناه في «الثَّورة السُّوريَّة»، و«الثَّورة المصريَّة»؛ وامتدَّت أطرافه إلى «ليبيا»؛ بل أستطيع أن أسمِّيه: الصِّراع «السُّنِّي» «الإخوانيّ» المتمثِّل بين محورين اثنين في إقليم «الشَّرق الأوسط» تتصدَّر الأوَّلَ «المملكةُ العربيَّةُ السُّعوديَّة» والثَّاني «قطر»، ويكاد هذان المحوران ينشغلان عن التَّمدُّد «الإيرانيّ» في المنطقة.
وبما أنَّ الصِّراع «الطَّائفيّ» حاصل لا محالة، وإن كنتُ أرفضه جملةً، وتفصيلاً، ولا أراه إلا فهمًا خاطئًا للدِّين، وهو من فعل السِّياسة ورجالاتها، والسُّكوت على وجوده خطأ كبير، سيؤدِّي إلى نشوء «طوائف» متعدِّدة في «الطَّائفة» الواحدة، وهو أمر واقع أصلاً، وإن لم يكن مشهورًا كغيره.
بما أنّه واقع فلا بدَّ من توجيهه في مكانه الصحَّيح، وعلى دول «الخليج» عامَّة وفي مقدمتها «السُّعوديَّة» أن تعي ذلك جيدًا، وأن تتنبَّه على الخطر «الطَّائفيّ» الحقيقيّ القادم لها من «إيران»، وأنَّ العبث السِّياسيّ الذي تعاني منه قد يجعلها هدفًا سهلاً، وضحيَّة هشَّة بعد أنَّ وجدَ الصِّراع طريقه إلى «بغداد» وقريبًا إلى «الكويت» التي لم تسلم من عدم الاستقرار السيِّاسيّ على مدى الفترات السَّابقة، وأن يكون الدَّعم موجَّها إلى أطراف النِّزاع الحقيقيّ؛ لأنَّ سقوط الطَّرف الأصيل سيؤدّي حتمًا إلى سقوط الذِّيول.