ظاهرة (دونالد ترمب) في الانتخابات الأمريكية، (إذا عرف السبب)

لاشك أن الكثيرين من متابعي الانتخابات الأمريكية اليوم، من الأمريكيين أنفسهم ومن الأجانب، لايجدون تفسيراً منطقياً للتقدم الكبير للمرشح الجمهوري رجل الأعمال البيليونير (دونالد ترامب) على بقية منافسيه من نفس الحزب، بالرغم من أنه أكثرهم وقاحة وتدنياً بالأخلاق وكذلك باللغة التي يستعملها في خطاباته، حتى بدأ الكثير من المراقبين بوصفه بالظاهرة الفريدة من نوعها في تاريخ الانتخابات الأمريكية. سأحاول في هذا المقال أن أقدم الأسباب لهذه الظاهرة، وذلك من خلال مواكبتي ومتابعتي للحياة السياسية الأمريكية المعاصرة.

 لابد أولاً من نظرة سريعة لخارطة السياسية الأمريكية منذ الاستقلال، حيث سيطر على الحياة السياسية حزبان: الديمقراطي والجمهوري. تشكل الأول من حزب أسسه الرئيس توماس جيفرسون عام 1792 باسم (الحزب الديمقراطي-الجمهوري) ويؤيد سلطة وصلاحية أكبر للولايات، ثم استقر على إسم (الحزب الديمقراطي) رسمياً عام 1828. أما الثاني فقد تشكل من حزب أسسه الوزير أليكسندر هاميلتون قبل ذلك بعام باسم (حزب الاتحاديين) عام 1791، لكنه وعلى نقيض الحزب سابق الذكر، يؤيد صلاحيات أكبر للسلطة المركزية للعاصمة على حساب الولايات، ومنه خرج فيما بعد (الحزب الجمهوري) عام 1854. كانت أول انتخابات أمريكية جرت المنافسة فيها بنظام الحزبين هي انتخابات 1796 والتي فاز فيها الاتحادي جون آدمز.

 بالعودة لظاهرة (دونالد ترامب)، فمن المهم الاشارة إلى أنه لاينتمي للمؤسسة السياسية المتمثلة بالحزبين الآنفي الذكر، وماعضويته في الحزب الجمهوري إلا عضوية شرفية أكثر منها فعلية. أما الدليل على ذلك فأنه كان دائماً يتبرع للمرشحين الديمقراطيين بالاضافة للجمهوريين في الانتخابات السابقة، وهذا شئ لايفعله أي شخص يدعي أنه حزبي، فالمنتمي لحزب لايتبرع سوى لحزبه. والدليل الآخر على ذلك أن العديد من قادة الحزب الجمهوري انتقدوه بشدة وطالبوه بالتخلي عن حملته لصالح بقية مرشحيهم، فقام بتهديدهم وعلى العلن بالانفصال عن الحزب والترشح كمستقل فيما إذا لم يعامل بنزاهة إسوة ببقية المرشحين. كل هذا يؤكد أن الرجل هو في الواقع مستقل، ولكنه فضل أن يرتدي سترة الجمهوريين كي يستفيد من تغطية سياسية وإعلامية أوفر، مستفيداً من درس رجل أعمال تكساس البيليونير (روس بيرو) الذي ترشح كمستقل عام 1992 وفشل بسبب تجاهله إعلامياً من جهة وعدم مقدرته على مواجهة الدعم الحزبي اللامحدود لمنافسيه من جهة ثانية.

 إذا سلمنا أن (دونالد ترامب) هو مرشح مستقل في الواقع وجمهوري فقط بالظاهر، سيكون من السهل حينها فهم سبب التقدم الغير مسبوق الذي يحرزه اليوم في الانتخابات، وهو يعود لاخفاقات وفضائح وأكاذيب الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض خلال العقود القليلة الماضية والذين ينتمون حصراً للحزبين الكهلين السابقي الذكر. وسأعرض هنا لأهم تلك الاخفاقات والفضائح والأكاذيب خلال فترة مابعد الحرب العالمية الثانية والتي مازالت عالقة في أذهان الكثير من الأمريكيين.

الجمهوري دوايت أيزنهاور (1953-1961): أول من بدأ بتوريط أمريكا في فيتنام بارسال خبراء عسكريين بدعوى وقف المد الشيوعي. شهد جزء من رئاسته التجاوزات الغير قانونية للسيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي الذي مارس إرهاب الدولة بدعوى محاربة الشيوعية.

الديمقراطي جون كينيدي (1961-1963): زاد من التدخل الأمريكي في فيتنام بقيامه بارسال جنود بالآلاف وآليات وطيران وأسلحة لدعم حكومة الجنوب ضد الشمال. بالاضافة لذلك فقد تورط بعلاقة فضائحية مع ممثلة كان يلتقيها في البيت الأبيض.

الديمقراطي ليندن جونسون (1963-1969): استلم الرئاسة كونه نائب كينيدي الذي تم اغتياله في مدينة دالاس عام 1963. زاد جونسون من تورط بلاده في فيتنام وتم إعلان الحرب رسمياً في عهده (استمرت من 1965-1975) بدعوى أن البحرية الفيتنامية الشمالية فتحت النار على زوارق عسكرية أمريكية في المياه الدولية، وهي الدعوى التي عاد وزير دفاعه آنذاك روبرت ماكنامارا وشكك بصحتها قبل وفاته 2009. هذه الحرب كلفت أمريكا أكثر من 58 ألف قتيل وعشرات آلاف الجرحى والمعوقين وشهدت الشوارع الأمريكية مظاهرات واسعة ضدها.

الجمهوري ريتشارد نيكسون (1969-1974): لم يتمكن من إيقاف حرب فيتنام إلا خلال فترة رئاسته الثانية واضطر لسحب قواته بطريقة مهينة وتحت إطلاق النار. خرج من البيت الأبيض أيضاً بصورة مهينة قبل إنهاء رئاسته الثانية بسبب (فضيحة ووترغيت) التي اتهم فيها بتورطه شخصياً بالتجسس على الحزب الديمقراطي، فتابع نائبه جيرالد فورد تلك الرئاسة حتى عام 1977.

الديمقراطي جيمي كارتر (1977-1981): شهدت رئاسته قيام الثورة الخمينية في إيران 1979 واقتحام السفارة الأمريكية في طهران وأخذ موظفيها كرهائن، وأدى فشله بتحريرهم لتخييب آمال شعبه به ووصمه بالضعف.

الجمهوري رونالد ريغان (1981-1989): وصل إلى البيت الأبيض بوعده حل أزمة الرهائن وإعادتهم إلى الوطن. وقد وفى بوعده وارتفعت شعبيته نتيجة لذلك، ولكن مالبث أن خيب آمال الكثيرين حين خيمت على إدارته (فضيحة إيران-كونترا) والتي فضحت تورطها بالتعاون السري مع عدوتها إيران في حربها ضد العراق (حليف أمريكا في حينها) وذلك بتوريد السلاح لها عن طريق وسيط هو إسرائيل. وهذا دعم اتهام المعارضة له بالاتفاق مع نظام الخميني في قضية رهائن السفارة وكذلك رهائن محتجزين في لبنان مقابل التعاون معه في الحرب. ريغان نفى علمه بكل ذلك وادعى أن الأمور جرت من خلف ظهره، وتمت التضحية بعدة أشخاص بينهم وزير الدفاع (كاسبار واينبيرغر) وكذلك (أوليفر نورث) أحد مستشاري مجلس الأمن القومي بتحميلهم المسؤولية.

الجمهوري جورج بوش الأب (1989-1992): كان نائباً لريغان لثماني سنوات كما واستلم لفترة وجيزة إدارة وكالة المخابرات المركزية في عهد الرئيس فورد، وقد ساعد وصوله إلى البيت الأبيض بضمان عدم الاستمرار بكشف تفاصيل فضيحة إيران-غيت. وعد الناخبين بعدم رفع الضرائب، ولكنه عاد وخلف وعده متحججاً بالضرورة الاقتصادية، فنعتته وكالات الاعلام بالرئيس الكذاب. هناك العديد من إشارات الاستفهام حول دور إدارته باغراء (صدام حسين) بغزو الكويت لتبرير شن الحرب عليه.

الديمقراطي بل كلينتون (1992-2000): بالرغم من انتعاش الاقتصاد بشكل ملحوظ في عهده، إلا أنه غرق في الفضائح النسائية والتي جرت بعضها تحت سقف البيت الأبيض نفسه، مما دفع بالجمهوريين للعمل على إقصائه من الرئاسة وكادوا أن ينجحوا في ذلك لولا حنكته السياسية.

الجمهوري جورج بوش الابن (2000-2008): شهدت إدارته في 11 سيبتمبر 2001 أسوأ هجوم على الأرض الأمريكية في العصر الحديث حيث تمت مهاجمة ثلاث ولايات بالطائرات المدنية. كما ورط بلاده في الحرب على العراق تحت ادعاءات تبين فيما بعد أنها غير صحيحة (أسلحة الدمار الشامل). كما ادعى تلقيه وحياً إلهيا يدعوه للقيام بذلك الغزو لمحاربة الشر على حد تعبيره، مما عرضه لموجة محلية وعالمية من السخرية. وصلت حالة البلاد الاقتصادية في عهده إلى أسوأ درجاتها خلال عقود حيث أشهرت عدة شركات تصنيع وتمويل وبنوك كبرى إفلاسها بسبب الفساد وسوء الادارة، ولاتزال البلاد تعاني من تلك الأزمة حتى يومنا هذا.

الديمقراطي باراك أوباما (2008-2016): عقد الأمريكيون الكثير من الآمال على وعود أوباما بتحسين الاقتصاد، ولكنه خيب تلك الآمال بعجزه عن تحقيق تحسن ملموس، وربما كان ذلك عائداً لمدى الانهيار الذي حدث في عهد سابقه. ولكنه ومن جهة ثانية ألحق الكثير من الأذى بسمعة أمريكا دولياً بالتخلي عن حلفاء ومناطق نفوذ باتباع سياسة تدل على الضعف في مواجهة أعدائها التقليديين روسيا والصين وإيران.

 أمام كل هذه الاخفاقات والفضائح والأكاذيب، بات الناخب الأمريكي اليوم يشعر بالقرف من كل مايمت بصلة لأي من الحزبين التقليديين، وهو مستعد للتصويت لصالح (الجن الأزرق) ماداموا لاينتمون لأي منهما. وتشاء الصدف أن يكون (دونالد ترامب) هو ذلك المرشح (الجني) الذي ظهر فجأة على الساحة والذي ينظر إليه الأمريكيون كالمخلص من شر وكذب وفساد سياسيي هذين الحزبين، ولذلك فهو عندما يقول بأنه أيضاً يكسب من أصوات الديمقراطيين، فليس هناك مايمنع من تصديقه. كما وأنه يستغل الظروف التي تمر فيها البلاد ويدلي بالتصريحات التي يود الناخب أن يسمعها. وعلى سبيل المثال فهو يستغل الأعمال الوحشية التي يرتكبها تنظيم الدولة (داعش) ليعزف على وتر تخويف الناس من الاسلام (الاسلاموفوبيا)، كما ويلعب على وتر الأوضاع الاقتصادية السيئة ليعزف على وتر ترحيل المهاجرين الغير قانونيين وبناء الجدار مع المكسيك. يضاف إلى ذلك أن ضعف منافسيه الجمهوريين الرئيسيين (كروز وروبيو وكيزيك) يجعل هزيمتهم أمراً سهلاً عليه. وأخيراً فهو يلجأ للمواقف المتشددة والمتطرفة ويستعمل لغة لم يسبق لمرشح رئاسي واستعملها، كل ذلك بهدف لفت نظر الإعلام ليحظى بأكبر تغطية مهما كان العنوان. ولكن أن يكون سيصدق بوعوده، فهذا شئ آخر، وما علينا إلا البحث أكثر في سيرته الشخصيته وكذلك ماضيه وحاضره ومايخفيه فيهما.

 في الخاتمة، فان المؤسسين الأوائل كانوا قد حذروا بعد الاستقلال من خطر الأحزاب ودورها في تقسيم المجتمع. فالرئيس جورج واشنطن (1789-1797) نفسه كان يكره فكرة الأحزاب وقد حذر في خطابه الأخير مما دعاه (الآثار المهلكة للروح الحزبية)، والرئيس جون آدامز (1797-1801) يقول (لاشيء يثير فزعي أكثر من انقسام الجمهورية الجديدة بين حزبين كبيرين) أما الرئيس توماس جيفرسون (1801-1809) فيقول (إن لم يكن باستطاعتي دخول الجنة إلا برفقة حزب، فلن أفكر بالذهاب إلى هناك). يبدو أن الأمريكيين عادوا وقرؤا ماقاله الآباء المؤسسون، وقرروا الأخذ بنصيحتهم. 

وسوم: العدد 659