أنا قتلت ريجيني!

أوشكت أن أذهب للسفارة الايطالية معترفاً بأنني قتلت «ريجيني»، طالب الدكتوراه الايطالي، الذي وجد معذباً ومقتولاً في طريق مصر- إسكندرية الصحراوي وقالت الأجهزة الأمنية أنه مات في حادث سير، فأضحكت الثكالى، لأن الطريق ليس معبداً للسير على الأقدام!

الوحيد الذي وجدوه سائراً عليه ذات ليلة هو الأخ الأستاذ عبد الفتاح السيسي، الذي نُشرت له صورة في هذا الطريق «الصحراوي»، وهو يتفقد الرعية، حيث لا رعية، بل اختفت السيارات ولم تظهر في الصورة سوى سيارة نصف نقل، تقف في منتصف الطريق، وتوحي الصورة أن سائقها كان يدير حواراً مع الأستاذ، وهي «لقطة» في سياق الدعاية التي كانت تقدم السيسي باعتباره «الرئيس الإنسان»، بعد «لقطة» ركوبه الدراجة، وطيرانه بها في الشارع، وهو الذي بينه وبين الشوارع والجماهير خصومة، حد أنه لم يقم بدعاية انتخابية، كما لم يلق خطابا جماهيريا أبداً!

في العادة، فإنني أنام وجهاز التلفزيون مفتوحاً، وهي أسرع طريقة للنوم، ولم يحدث مرة أن نمت على قناة مصرية، من تلك التي تحول فيها مقدمو البرامج إلى خطباء، ذلك لأن هذا سيحول دون الاسترخاء الذي يستدعي النوم، فهم حتماً يمكن أن يصيبوا المشاهد لهم بالصرع، لكن لا أعرف ملابسات تشغيلي لقناة «صدى البلد» قبل النوم في ذات ليلة؟ ربما كانت تعرض عملاً دراميا.. لا أتذكر شيئاً من هذا، فما أتذكره جيداً أنني استيقظت من نومي مفزوعا، وإذا بي أمام برنامج «على مسؤوليتي»، الاسم الذي تم السطو عليه من «الجزيرة مباشر مصر» قبل إغلاقها!

للمرة الأولى أعرف أن إعادة البرنامج تتم مبكراً بهذا الشكل، وإذا بأحمد موسى يصرخ بالصوت «الحياني»، وهو يقول: «مصر مقبلة على كارثة»، ولا أعرف لماذا انزعجت، مع أني أعلم أن مصر تعيش الكارثة بالفعل منذ الإنقلاب العسكري، ومنذ أن أطاح وزير الدفاع برئيس الدولة المنتخب!

اللبن المسكوب

«مصر مقبلة على كارثة»؟! هذا ليس خبراً، فهي مقبلة فعلاً على جفاف مائي، بدأت أثاره تظهر للعيان، والأمر لا يستدعي الانتظار حتى الانتهاء من بناء سد النهضة، الذي اعترف وزير الخارجية المصري بأنه حق لأثيوبيا، وطالبنا وزير الري المعين من قبل السيسي بألا نبكي على اللبن المسكوب، فالسد صار أمراً واقعاً!

لقد تبين أن موسى لا يعني شيئاً من هذا وهو يعلن أن مصر «مقبلة على كارثة»، فقد أرجع سبب هذا إلى أزمة «ريجيني»، ولأنه كان يود أن يشد في شعره فيكتشف أنه لا وجود له، وأوشك أن يلطم على خديه، تعبيراً عن حجم الكارثة، فقد وصلت إلى قناعة بأن وطنية المرء لا تكتمل إلا بعد أن يساهم في منع وقوع هذه الكارثة، لذا فقد قررت أن أضحي بنفسي من أجل مصر، وأعترف للسلطات الايطالية بأني قتلت «ريجيني»، وإلا فما معنى أن تُشرك الأذرع الإعلامية للانقلاب العسكري المشاهدين في قضية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وهي بين السلطة المصرية ونظيرتها الايطالية!

قد يكون الموضوع جد خطير، لكن ماذا في وسع المواطن أن يفعل، عندما يشاهد إعلامياً يوشك أن يغمى عليه وهو يقول إن مصر مقبلة على كارثة، إلا أن يتبارى المواطن الشريف في العمل على حل هذه المشكلة لمنع وقوع الكارثة، لا سيما وأن فكرة التعبئة بشحن المواطن استعداداً لحالة حرب مع إيطاليا ليست مطروحة، ورداً على تصريحات الحكومة الايطالية، قال وزير الخارجية المصري بهدوء وأريحية إن العلاقات بين البلدين تمنعه من الرد على هذه التصريحات الخشنة، فتأكد القاصي والداني أن الرجل لا تواتيه الشجاعة إلا في مواجهة «ميكروفون الجزيرة»!

تكمن مشكلة سلطة الإنقلاب في مصر، في أنهم يلعبون محلياً في معركة خارج الحدود، فأجهزة الأمن تعاملت على أن «ريجيني» مواطن مصري تعرض للتعذيب حتى الموت، فتبدت العورات للناظرين، وقد يكون مسموحاً داخلياً أن يقال إن من فتح السجون المصرية في ثورة يناير، موتى من حركة حماس، وقد يكون ملائماً أن يتهموا أعمى بقنص ضباط الشرطة، فيعرض على النيابة التي تحيله بهذه الحالة للقضاء، وتراه هيئة المحكمة بحالته فتؤجل نظر القضية جلسة وراء جلسة، ولم تفرج عنه إلا بعد أن تحول الأمر إلى «نكتة» و»فضيحة» مكتملة الأركان!

وقد يكون مقبولاً والمباراة محلية، وعلى «استاد نجع عزوز الرياضي»، أن يعلن وزير الداخلية رسمياً، أن حركة حماس وراء اغتيال النائب العام المصري، وفي اليوم التالي يدخل الجناة مصر آمنين على الرحب والسعة ويلتقون بقيادات في السلطات المصرية، وتعقد معهم المباحثات في مبنى جهاز المخابرات العامة المصرية!

أكاد ألمح قارئاً متربصاً، يعلن أنه لا وجود «لإستاد نجع عزوز الرياضي»، فاته أن هذا يجوز على مذهب «الإمام عبد الفتاح السيسي»، فعلى مذهبه تم اتهام إمام مسجد قعيد، بأنه وراء تفجير نقطة شرطة في الهرم وبالبحث والتحري تبين أنه لا نقطة شرطة تحمل الاسم الذي قالوه وفي الموقع الذي أعلنوه!

«الرقع بالصوت»

انشغال أهل الحكم في مصر بنا، ومحاولة إقناعنا بأنهم لم يقتلوا «ريجيني» يجعلهم يغفلون الجانب الايطالي والجهات الدولية التي تراقب الموضوع عن كثب، ولهذا «رقع» أحمد موسى وهو يقول: «مصر مقبلة على كارثة بسبب أزمة ريجيني» فأيقظني من «أحلى نومة»، فماذا عساني كرجل وطني ومصر على شفا كارثة ان أفعل، وقد استيقظت من النوم وصرت منتبهاً لكل ما يحاك بها من مؤامرات؟!

انشغال الإعلام بنا نحن، هو ما جعلهم في البداية يروجون لحديث الإفك بأن «ريجيني» شاذ جنسي، واستدعوا بعض المحللين النفسيين ليقولون إن هناك نوعا من الشذوذ، لا يمارس إلا تحت التعذيب الذي يفضي للموت، فلا يذوق الشاذ حلاوة الشذوذ إلا بعد إلقائه في طريق مصر – إسكندرية الصحراوي بالذات!

لقد اعتبر الإنقلابيون أن هذه المعركة الوطنية الكبرى، التي ينبغي أن تحشد لها «البنت أمها»، تستدعي البحث عن مخرج يجنب البلاد هذه الكارثة، فكان الأداء يوحي بأن شيئاً ما في أعلى الرأس قد توقف، وأن مصر صارت مصابة في نخاعها الشوكي.. لا أعرف بالمناسبة فائدة النخاع الشوكي لكن من اسمه يوحي أن الإصابة به تؤثر على اللياقة العقلية للمصاب فيه. وسأختار لكم عينة عشوائية، مكونة من ثلاثة أشخاص، بجانب أحمد موسى، الذي أيقظني بصياحه من نومي، وأوشكت أن أقوم بدور خاطف الطائرة، الذي بدا أن هناك من أقنعه بالقيام بدور في فيلم كارتون من أجل مصر، وعلى وقع أغنية «يا حبيبتي يا مصر يا مصر»، كلمات محمد حمزة، ألحان بليغ حمدي، غناء الفنانة شادية!

وربما كان هناك من أقنعه بالقيام بدور في برنامج «الكاميرا الخفية»، فجلسته وهو يحتسي قدح الشاي في حضرة المضيفة التي تحتسي «النسكافيه»، لا يوحي بأنه خاطف لطائرة فعلاً وإنما يؤكد أنه ممثل هاو أنهى دوره وفي انتظار «بقية الأتعاب»!

رجل المخابرات

وحدة العينة العشوائية الأولى تتمثل في الدكتور رفعت السعيد، زعيم حزب التجمع التقدمي الوحدوي.. إلخ.. إلخ، الذي أعلن على قناة العاصمة أن «ريجيني رجل المخابرات البريطانية».. «خبير رفعت السعيد هذا في اصطياد رجال المخابرات»!

والوحدة الثانية للعينة العشوائية تتمثل في معتز بالله عبد الفتاح، الذي يقدم برنامج «90 دقيقة» على قناة «المحور»، والضيف المكرر في ما تيسر من برامج، والذي يكفي يجد الوقت الكافي لممارسة وظيفته كأستاذ للعلوم السياسية في جامعة القاهرة وقبل هذا كباحث، إن كان يمت للبحث العلمي بصلة، وقد أعلن من واقع خبرته في الأجهزة الأمنية ما ظهر منها وما بطن، أنه لا وجود لجهاز مصري لديه تاريخ في تعذيب الأجانب!

أما النموذج الثالث في العينة فهو بحر العلوم، وترعة المفهومية، وشط الغرام «اللواء» مجدي البسيوني «مساعد وزير الداخلية سابقاً» ومن واقع خبرته الأمنية العريضة، وتاريخه في العمل الشرطي الضارب في أعماق التاريخ فقد قال على قناة «الغد» إن مخابرات لدول أجنبية متهمة بقتل «ريجيني»!

وعند النظر في أقوال هذه العينة العشوائية من البشر، لا بد أن يستقر في وجداننا أن مصر مقبلة على كارثة فعلاً ليس بسبب أزمة «ريجيني»، فهذه أزمة يمكن أن يجري احتواؤها بأقل التضحيات، لتعود العلاقة بين الإنقلاب والحكومة الإيطالية «صافي با لبن حليب يا قشطة»، وإنما الكارثة الحقيقية في أن هذه العينة متواضعة المهارات الوظيفية، تتصدر المشهد، وتتخطى الرقاب، وتشكل عقول المشاهدين، على نحو كاشف بأن «العكاشية» ليست سمة فرد لكنها عنوان مرحلة!

«رفعت السعيد» عندما يقول إن «ريجيني» هو رجل المخابرات البريطانية، يخاطبنا نحن، ليبرر تعذيبه وقتله، لكن فاته أننا لسنا الموضوع، وأن القضية انتقلت لإيطاليا وللإعلام الدولي وللبرلمان الأوروبي، ففضلا عن أن يثبت اتهامه بالقرائن والأدلة، وكون «ريجيني» عضوا في المخابرات الإيطالية فإنه يسلم بأنه قُتل على أيدي الأجهزة الأمنية التي عذبته حتى القتل، لدوافع وطنية!

إنهم قطاع الطرق، و«لصوص الغسيل» وقد وجدوا أنفسهم أمام قضية كبرى، ذكروني بواقعة مضحكة، عندما قام أحد الأشقياء في أول عملية سرقة له قام بالسطو على شقة، وفي النيابة وجد نفسه متهماً بالتخطيط لقتل حسني مبارك!

وسوم: العدد 663