مطرقة نتنياهو وسندان السلطة
تمر السلطة الوطنية الفلسطينية الآن بوضع حرج، يُنذر بانهيارها، كما حذّر وصرّح مرارًا وتكرارًا الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وأكّده أعضاء في الحكومة الإسرائيلية ورجال الأمن الصهاينة، الذين باتوا يعتقدون بعدم جدوى بقاء السلطة الفلسطينية، بعد أن استنفذت مهامها في المرحلة السابقة، وصارت الضفة الغربية على أعتاب مرحلة جديدة، بفعل انتشار الاستيطان ورماً خبيثاً ينهش في جسدها، وتعالت الأصوات الصهيونية المطالبة بإعلان فشل حل الدولتين، وبضم الضفة الغربية، أو أجزاء واسعة منها إلى الكيان الصهيوني، وحصر الوجود الفلسطيني فيها ضمن كانتونات منعزلة في المدن الكبرى التي تُعرف بمناطق ألف (18% من مساحة الضفة الغربية).
ليس هذا الوضع وليد ساعته، وإنّما هو نتاج لاتفاق أوسلو سيئ الصيت، وتكريس لما تمّ الاتفاق عليه في مرحلة إعادة إنتاج "أوسلو" التي رضخت تماماً لشروط العدو، بعد رحيل ياسر عرفات. يكفي للدلالة على ذلك أن نذكر أنّ وتيرة الاستيطان تضاعفت عشرات المرات، في ظل اتفاق السلام، كما تضاعف عدد الأسرى في المعتقلات الصهيونية، واشتدّت القبضة الأمنية في ظل أجواء التنسيق الأمني، بعد اتفاق دايتون، بل لم يتجرأ العدو على ممتلكات الغائبين في المناطق المحتلة منذ 1948، إلّا بعد توقيع اتفاق أوسلو.
على أنّ اللافت، وبعد مرور نحو ربع قرن على الاتفاق، سهولة تمرير الإجراءات الصهيونية من دون أدنى مقاومة تُذكر من السلطة الفلسطينية، وكأنّها صارت أمراً معتادًا، بحيث انعدمت مظاهر المقاومة الفعلية الحقيقية لسياسات العدو، وصار في وسعنا القول إنّ مطرقة نتنياهو تهوي على سندان السلطة الفلسطينية، محاولة أن تسحق في طريقها أي شكل من المقاومة. وإذا كان العدو الصهيوني يعتقد أنّ دور السلطة الفلسطينية على وشك الأفول، وأنّ حل الدولتين مات ودُفن، وأنّه على أبواب إعلان ضم الضفة الغربية، وتحويل ما تبقى منها إلى كانتونات مرتبطة إدارياً بسلطات الاحتلال، فإنّ السلطة الفلسطينية باتت ترزح بين مطرقة الاحتلال وسندان تصرفاتها وسياساتها، وكأنّها تستجدي مبرّر بقائها، ودوام سلطتها عبر الإذعان لتلك الضربات المتوالية التي تنهال عليها، بدلاً من مواجهتها والتصدّي لها والاستقواء بشعبها والتسلح بانتفاضته، وإدراك مكامن قوتها، ومدى الضعف الذي ينتاب العدو، وإمكانات انهياره عند مواجهته مقاومة متصاعدة في الداخل، وعزلة دولية في الخارج.
اتسمت سياسات السلطة الفلسطينية من الانتفاضة في بدايتها بالتردد والتقليل من شأنها، لم
"سهولة تمرير الإجراءات الصهيونية من دون أدنى مقاومة تُذكر من السلطة الفلسطينية"
تدعمها، ولم تأخذ بداية موقفاً حاسماً ضدها، وسمحت قوات الأمن للمتظاهرين بالوصول إلى نقاط الاحتكاك مع الحواجز الصهيونية، قبل أن تتراجع عن ذلك لاحقًا، إلّا أنّ تصريحات المسؤولين اعتبرت أنّ ما يحدث ليس فعلاً مقاوماً، بقدر ما هو حالة يأس من الشباب الفلسطيني الذي ولد في مرحلة "أوسلو" وما بعدها. وبدلاً من الانصياع إلى قرارات المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني، ازدادت وتيرته، وتباهى المسؤولون عنه بعدد العمليات التي أُحبطت، وصولاً إلى اعتباره مقدساً، وأنّ غيابه يؤدي إلى الفوضى والخراب، ويسمح بوجود الأسلحة والمسلحين، وكأنّها أشياء محرمة على أبناء الشعب الفلسطيني، وتفتيش حقائب أطفال المدارس بحثاً عن السكاكين، ليبلغ السيل مداه بمطالبة الصهاينة أن يجرّبوا السلطة أسبوعًا واحدًا يكون من حقهم بعدها اجتياح المناطق التي يريدونها، إذا فشلت السلطة في تحقيق الأمن وإنهاء مظاهر الانتفاضة. وبذلك، يتوفر غطاء قانوني مستمد من تصريحات قادة السلطة للاجتياحات والاقتحامات الصهيونية المتكرّرة في كل يوم، بل وفي كل ساعة.
بعد ذلك وخلاله، ادّعى القائمون على السلطة الفلسطينية أنّ أشكال الانتفاضة المتبعة تعيق التحرّك السياسي في المحافل الدولية، في محاولة لإقناع الجمهور الفلسطيني بأنّ الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام الفلسطينيين هي اللجوء إلى المجتمع الدولي، مستغلةً الإنجازات التي حققتها حركة المقاطعة المنطلقة عبر مبادراتٍ شبابيةٍ، لا ناقة للسلطة فيها ولا جمل. أمّا النتائج فكانت سلسلة من التراجعات المتتالية أمام أول بادرة ضغط صهيونية، فكم مرةً جرى الحديث عن تشكيل لجان وإعداد ملفات لتقديمها إلى محكمة الجنايات، ومن ثمّ تبخرت هذه الجهود، بل سُحبت ملفات تقدّمت بها منظمات حقوقية، بحجة أنّها لم تُقدّم عبر جهات رسمية، على الرغم من إجازة القانون الدولي ذلك.
جديد هذه التراجعات كان سحب المشروع المُقدّم أمام مجلس الأمن لإدانة المستوطنات الصهيونية في الأرض المحتلة، بذريعة إتاحة المجال أمام المبادرة الفرنسية التي تقلصت من مشروع قرار أمام مجلس الأمن، إلى مؤتمر دولي غير ملزم للأطراف المختلفة، ولا يترتب على رفض نتائجه أي نتائج ملموسة. وبالفعل، رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي المبادرة الفرنسية، بعد أن سُحب المشروع الفلسطيني من مجلس الأمن، على الرغم من أنّ طرحه كان بديلاً لمشروع آخر تراجعت السلطة عن طرحه، يدين استمرار الاحتلال، ويدعو إلى تحديد جدول زمني للانسحاب الإسرائيلي، كما يدعو إلى توفير الحماية للشعب الفلسطيني.
تتلخص السياسة الخارجية للسلطة الفلسطينية في أنّها تروّج مشاريع وقرارات ومبادرات وملفاتٍ، تقوم بإعدادها للتغطية على تقاعسها في دعم المقاومة الشعبية وإطلاقها، إلّا أنّ هذه المشاريع تبقى حبيسة الأدراج، أو تُسحب من التداول لدى أول بادرة ضغط أميركية أو صهيونية، ليبدأ البحث عن مشروع آخر، لكسب الوقت وبيع الوهم للشعب الفلسطيني. وكما الحال في السياسة الخارجية، يتمّ التعامل مع معطيات الوضع الداخلي عبر التشكيك في الانتفاضة، واستمرار التنسيق الأمني، ومحاولات استجداء الرضا الإسرائيلي بكل الوسائل والأساليب، وهو ما عبّرت عنه سلسلة من التصريحات، بما فيها تصريحات للرئيس محمود عباس، ومجموعة من الممارسات، أقلها التعزية بالحاكم العسكري للضفة الغربية. إلّا أنّ ثالثة الأثافي جاءت عندما أقالت السلطة محافظ نابلس، بعد ثلاثة أيام من انسحابه مع عدد من الشخصيات، احتجاجاً على إلقاء رئيس مجلس المستوطنات الصهيونية في المنطقة خطبة في احتفال للطائفة السامرية في المدينة، في إشارة إلى أنّ الانسحاب من لقاء مع المستوطنين أصبح أمراً يستوجب العقوبة.
لا يدرك المسؤولون في السلطة الفلسطينية أنّ مثل هذا السلوك لن يُجنّبهم الإصرار الصهيوني على تهويد الضفة. وبالتالي، على فقدان دور السلطة نفسها الذي سيصبح، مهما استرسل في طلب الرضا الإسرائيلي، عاملًا مساعدًا للصهاينة على تنفيذ مخططاتهم، إذ تعدّى هذا الموضوع الإطار النظري، وثمّة مشروع يجري إعداده للعرض على الكنيست الصهيوني، يقضي بتطبيق القوانين الإسرائيلية على المستوطنين في الضفة الغربية والمناطق التي يقيمون فيها، ما يعني ضم أكثر من 62% من الضفة إلى إسرائيل، في حين تبقى التجمعات السكنية الفلسطينية معزولة وخاضعة للحكم العسكري، وهو ما يعني النهاية الفعلية للسلطة الفلسطينية.
يكفينا بيعاً للوهم، فالخطب جلل، ولعل ذلك يؤذن بانتهاء مرحلة تداخل الألوان، وعودة المشروع الوطني الفلسطيني إلى جذوره، ويعيد الصراع من جديد بين الشعب الفلسطيني والمحتل، من دون لُبس أو غموض أو مشروعات زائفة
وسوم: العدد 666