التنسيق الأمني عقيدة أمنية وسياسية راسخة في المشروع الوطني الفلسطيني

التنسيق الأمني عقيدة أمنية وسياسية راسخة

في المشروع الوطني الفلسطيني

د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين

[email protected]

نقلت وكالات الأنباء تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية عباس التي قال فيها أن التنسيق الأمني مع الاحتلال اليهودي مقدس، وأنه سيستمر في عهد الحكومة الجديدة سواء "اتفقنا أو اختلفنا"، وذلك خلال لقائه مع ناشطين من حركة السلام الآن اليهودية في مقر الرئاسة في رام الله، وحثّ عباس على تطبيع العلاقات مع كيان يهود، معتبرا أن المفاوضات هي الطريق الوحيد للسلام.

***

من المعروف أن عباس هو مهندس اتفاقية أوسلو التي نصت على "إنشاء لجنة مشتركة للتنسيق والتعاون بشأن أغراض الأمن المتبادل" وحمّلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية "المسؤولية عن الأمن الشامل للإسرائيليين والمستوطنات". وهي التي فتحت المجال لممارسة العهر السياسي تحت مسمى المشروع الوطني، وتمكنت المنظمة عبره من تحويل "المناضلين القدامى" إلى حرس حدود عند ذلك الاحتلال، وفتحت المجال لما كانت تدّعي رفضه من تعاون أمني في مشروع "روابط القرى". وكانت تلك البنود تجسيدا عمليا لبعض مقررات المجلس الوطني الذي انعقد في الجزائر 1988، والتي أبدى المجلس الوطني فيها استعداده الكامل لحفظ أمن الاحتلال، مما يكشف عن نية مبيتة لدى منظمة التحرير لتلك الخيانة. وقد نجحت المنظمة في تمرير هذا العار بل تحول إلى شعار، لا يخجل منه من يعتبره مرتزقة المشروع الوطني زعيما وطنيا.

لقد سجلت منظمة التحرير أسبقية تاريخية في تحويل منظمة تحرّر - ادّعت الكفاح المسلح ضد الاحتلال - إلى مشروع أمني في خدمة ذلك الاحتلال، بل يلاحق من يفكّر بالكفاح المسلح، أو من يقاوم ذلك الاحتلال ومن يرفضه.

إن جريمة عباس - ومنظمته- في ترتيب ملف أوسلو الخياني لم تكن الأولى بحق فلسطين وأهلها وقضيتها، بل إنه اعترف في كتابه طريق أوسلو بدوره الفعال في تمرير نهج الاتصالات السرية بين رجالات المنظمة وبين "الإسرائيليين"، في مراحل مبكرة من نشأة منظمة التحرير (عندما كانت المنظمة تعتبر تلك الاتصالات خيانة!).

ويؤكد عباس أنه رفع في فترة السبعينات شعار "الاتصال بالقوى الإسرائيلية" من أجل السلام، وأنه أوقع بعدد من رجالات المنظمة في تلك المصيدة (وذكر أسماءهم)، وأنه بعدما تلقى هجوما عنيفا من مختلف الأوساط الفلسطينية، استطاع انتزاع قرارات من المجلس الوطني في دورته الثالثة عشرة عام 1977 بجدوى الاتصالات السرية مع اليهود، وبيّن أهمية التأكيد على ذلك مرارا ضمن دورات المجلس الوطني في الأعوام 1981 و1982 و1987 و1988، مما جعل تلك الاتصالات السرية "ذات طابع شرعي محمي بالقرار الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني"، فحصن عباس نفسه بتلك القرارات من السقوط تحت تهمة الخيانة العظمى.

لذلك صار عباس بعد ذلك صريحا سافرا في الاعتراف بالخيانة في جلسات المنظمة بعدما أمن العاقبة، إذ ذكرت جريدة السفير في 1992/9/30 أنه واجه عرفات بالحقيقة خلال اجتماع المجلس الثوري لحركة فتح في أيلول 1992، ودعا إلى ضرورة المصارحة بالقول "من واجبنا ألا نكذب عليكم، وأن نصارحكم بالحقيقة ... والحقيقة أننا إنما نحاول فقط تحسين صورة النتائج التي نعرف أنها غير مرضية، وأنها تكاد تكون في مستوى الخيانة الوطنية... فما سوف نتوصل إليه سيكون مرفوضاً ولا بد لنا مع ذلك أن ندافع عنه".

إن هذا التعبير الوطني (!) عن عقيدة سياسية منحطة لدى عباس هو انعكاس للعقيدة الأمنية المتحدية للأمة والتي فتح عباس الباب فيها أمام الجنرال الأمريكي - دايتون - ليربي أفراد الأجهزة الأمنية عليها، وهي نتيجة طبيعية لذلك السجل الخياني الذي خطّه عباس بسبق الإصرار والترصد.

إن من يشكك في خيانة رئيس السلطة الفلسطينية وفي عار التنسيق الأمني وفي عار إنشاء سلطة تحت الاحتلال اليهودي لحماية أمنه، يلقي بنفسه في وحل الخيانة من حيث يدري أو لا يدري، إذ كيف يمكن لمن يشك في الخيانة السافرة أن يعرف الشرف والإخلاص.

وإن الالتقاء على حكومة ائتلاف تحت مسمى المصالحة لمثل هذه السلطة التي تقدس المشروع الأمني هو عار جديد، ودحرجة مستمرة لقضية فلسطين في منحدرات التخاذل والتنازل، وإنه لمن المؤسف أن تصدر على منابر المساجد دعاوى باطلة تعتبر ذلك الاتفاق السياسي على مشروع السلطة الحامية لأمن اليهود فرضا إلهيا، مما يمكن معه لعباس أن يفتخر بإنجازه الهائل: إذ إنه لم ينجح فقط في تلويث رجالات المنظمة بعاره، بل إنه عبر ذلك الاتفاق المسمى مصالحة يجرّ معهم من يحمل شعار الإسلام.

وهو ما مهد الطريق نحو ليّ أعناق نصوص الوحدة بين الأمة الواجبة إلى واقع التوحّد على رؤية فلسطينية باطلة تستظل بظل هذه العقيدة السياسية الخيانية، مما يمثل ردة سياسية بشعة على المواثيق الثورية، ونقضاً صريحاً لها، مما يُستحضر معه ما ذمّه القرآن من نقض اليهود للمواثيق: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾.