إذا بلي الحذاء، نهاية خليفة حفتر
ـ كلنا يعرف كيف دخل التتار بغداد، وكيف أن التتار لم يكن بمقدورهم الدخول لولا خيانة الوزير الشيعي ابن العلقمي الذي سهّل لهم الدخول ، ولكن قليل من يعرف كيف كانت نهاية؟!
نهايته كانت مثل نهاية كل خائن وحقير، عامله الله عز وجل بعكس مراده ، وأذاقه الهوان على يد خان من أجلهم أمته ، فقد حرمه هولاكو من أي منصب ، وسلبه كل امتيازاته التي كان يتمتع بها أيام العباسيين ، والأكثر من ذلك أنه تعمدوا إهانته بصورة بالغة حتى قيل في بعض الروايات أنه عينه في وظيفة السائس لخيول ودواب أمراء التتار ، وفي النهاية لم يحتمل الخائن هذه الإهانة فمات كمداً بعد 3 شهور فقط من سقوط بغداد، وصارت نهايته مضرب الأمثال لعاقبة الخيانة.
ـ منذ الإطاحة بالطاغية القذافي في 2011 باتت الأراضي الليبية مخللة إستراتيجيا ، ومستباحة سياسيا ومخابراتيا وعسكريا لكل القوى الإقليمية والدولية ، وساحة شاسعة للصراعات الداخلية وتربة خصبة للتدخلات الخارجية، مما أوصلها إلى هذه الحالة المعقدة سياسيًا والتي بات الحديث فيها عن التوافق ولم الشمل دربًا من دروب الخيال
_ لم تشهد ليبيا الاستقرار الغربي المنشود بعد سقوط القذافي ومقتله، بل سرعان ما انقسمت البلاد إلى جبهتين متصارعتين أحدهما في طرابلس العاصمة وهو المؤتمر الوطني الليبي العام، والآخر في طبرق وهو برلمان طبرق المنحل بحكم محكمة الدستورية العليا في ليبيا، ولكل منهما ذراع عسكري . هذا الخلاف الليبي الداخلي لم ينجح الغرب في فرض تصوراته عليه رغم دعمه خفية لجبهة طرابلس وحفتر ، من أجل إقرار واقع يضمن المصالح الغربية في البلاد، لكن قوة طرف الإسلاميين هذه المرة في ليبيا لم تجعلهم لقمة سائغة بين تحالفات الثورة المضادة في المنطقة .
_ ورغم الدعم الإقليمي والدولي الكبير الذي حصل عليه الجنرال المتمرد خليفة حفتر، تكررت إخفاقاته ، وتوالى فشله في فرض نفسه على الليبيين كقائد أعلى، ومن ثم توجهت القوى الدولية للتعامل مع الشأن الليبي بواقعية تتجاوز إخفاقات حفتر ، فاتفقت إرادة المجتمع الدولي على مساندة ما انتهت إليه العملية السلمية في ليبيا، والتي قادتها الأمم المتحدة وانتهت بتشكيل حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج. دعماً أجبر عليه المتآمرون الدوليون لأن مصلحة الغرب باتت تستلزم تحقيق الاستقرار في ليبيا، فأوروبا وأمريكا باتت أكثر إصرارًا على التدخل من أجل وضع حد لحالة عدم الاستقرار في ليبيا، انطلاقا من عنوانين أساسيين: الأول يتمثل في تزايد نفوذ تنظيم "داعش"، والثاني تزايد موجات الهجرة غير الشرعية عبر الشواطئ الليبية. وطبعًا لن تتمكن ليبيا في ظل حالة التقاتل الداخلي والانقسام وعدم الاستقرار من النجاح والتقدم في هذين الملفين المهمين.
_ هذا التوافق الدولي أخرج معسكر طبرق وذراعه العسكري خليفة حفتر من معادلة السلطة الجديدة في ليبيا ، وهذا ما لم يعجب حفتر وداعموه الإقليميين ، ودفعه بشتى الطرق نحو تعطيل المسار السياسي الجديد ، إيماناً واعتقاداً بأنه منقذ ليبيا الوحيد من الإرهاب والتطرف ، فتصريحاته لوسائل الإعلام بدت وكأن الجنرال المتمرد نرجسي مفعم بتضخم الذات ، واثق إلى حد الغرور ، متكبر إلى حد العجرفة والجنوح. فهو يضع نفسه فوق الجميع في ليبيا، فوق أي سلطة رسمية وغير رسمية ، ويعتبر أن المجلس الرئاسي الجديد الذي انبثقت عنه تلك الحكومة مجرد حبر على ورق، وأن الميليشيات التي يرأسها هي الجيش الوطني لليبيا ، وهي وحدها المنوط بها حماية ليبيا ومواجهة الإرهاب، كما أنه غير معني بأي حوار سياسي ليبي، كما لو كان زعيما فوق الجميع ويحظى بإجماع وطني. والأمر غير ذلك بالمرة ، وربما عكس كل هذه الأوهام المعششة في خيال المتمرد .
_ عجرفة حفتر تلقت صدمة كبيرة بعد القرار الدولي برفع تزويد الجيش الليبي بالسلاح، وتحديد المبعوث الدولي ( مارتن كوبلر ) والجهات الدولية بأن الجيش الليبي هو الذي يتبع حكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة والي تم البدء في الفترة الماضية في تأسيسه، وليس هو الجيش الذي يترأسه خليفة حفتر. ومعنى ذلك أن هناك جيشًا سيتم تكوينه من جميع الليبيين أي من كافة الجهات والأطياف الليبية ، وليس مجرد مليشيات وبنادق مستأجرة تعمل لصالح أجندات خارجية . كما اعتبر كوبلر أن "ضمان خليفة حفتر موقع له في المرحلة القادمة مشروط بانضوائه تحت شرعية المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني" .
_ ثم جاءت خطوة إنشاء قوة عسكرية وأمنية جديدة باسم "الحرس الرئاسي" والتي أنيط بها تأمين المنشآت والمقار الحكومية وأعضاء الحكومة والوفود الأجنبية، بالإضافة إلى حراسة الأهداف الحيوية في البلاد وعلى رأسها الحدود وآبار النفط . وصدور بيان عن ست حكومات غربية (الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا واسبانيا) يدعو لوضع كافة منشآت الطاقة في ليبيا تحت سيطرة حكومة الوفاق، الاتجاه العام الذي تتجه إليه ليبيا، وذلك بعد توترات حول من هي الجهة المخوّلة إدارة ميناء الزويتينة النفطي بين الجيش التابع للحكومة وحرس المنشآت النفطية، لعبت تصريحات لخليفة حفتر دوراً في تأجيجه .
هذه الخطوة اعتبرها المراقبون ضربة قوية ثانية بالنسبة لطموحات حفتر ، لأن هذه القوة ستكون نواة الجيش الليبي الجديد . غير أن تراخي الإرادة الدولية والإصرار الإقليمي للدول الداعمة لحفتر على بقائه في الصورة واستلامه قيادة الجيش ، أضفى على المشهد الليبي توتراً في ظل استمرار تهديدات حفتر للحكومة الجديدة .
_ ثم جاء الإعلان عن مقتل خمسة جنود فرنسيين داخل الأراضي الليبية الشهر الماضي ليلقي بظلاله القاتمة على المشهد العام، خاصة بعد التعتيم الفرنسي طيلة الفترة السابقة على تواجده العسكري داخل ليبيا، ليكشف عن وجود دعم عسكري أوروبي لحفتر ضد حكومة السراج ، وأن النفاق الغربي كان يعمل على أشده ، ففي أروقة وقاعات المؤتمرات والمؤسسات الدولية ينادي المبعوث الدولي باحترام حكومة التوافق ، وفي السر تعمل كل القوى الأوروبية على دعم حفتر وتقوية مركزه . ففرنسا ليست وحدها التي تعمل في ليبيا ، فهناك مجموعات قتالية من أمريكا وبريطانيا وإيطاليا تعمل كلها في مجال الاستخبارات ومحاربة الإرهاب على حد زعمهم . الوجود العسكري الفرنسي كان مثار نقد شديد من حكومة الوفاق الوطني التي اعتبرته «تدخّلا سافرا» واستدعت السفير الفرنسي في طرابلس وسلمته مذكرة احتجاج .
_ ثم تسارعت الأحداث العسكرية والسياسية في ليبيا خلال الأيام الماضية بما يوحي بأن الداعمين الدوليين والإقليميين قرروا الاستغناء عن خدمات حفتر المتعجرف ، فبعد إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما في بداية الشهر الحالي عن قراره بدعم حكومة الوفاق الوطني الليبية عسكريّاً من خلال توجيه ضربات جوّية لتنظيم «الدولة الإسلامية» في مدينة سرت ، كما أن التدخّل الأمريكي لم يقتصر على الغارات الجوّية بل تضمن أيضاً وجوداً لقوات خاصة برية تعمل على الأرض مع قوات حكومة الوفاق. هذا في نفس الوقت قامت فيه القوات الفرنسية الداعمة لبرلمان طبرق وحفتر بالخروج من ليبيا والتوجه إلى قاعدة عسكرية بمالطة .
_ هذه الخطوة الأمريكية جاءت بعد أن أفسحت المجال لفرنسا فترة طويلة من أجل حسم المعركة لصالح حفتر ، ولكن فشل حفتر المتكرر ، وعجرفته الزائدة ، وتحوله لحجر عثرة في طريق حكومة الوفاق المدعومة أمريكيا وغربيا والتي صنعت خصيصا للحفاظ على المصالح الأمريكية والغربية في ليبيا ، كل هذه الأمور دفعت أمريكا للتحرك نحو إخراج حفتر من المشهد برمته ، فهو عالة على جهودها في محاربة التنظيمات الإسلامية في ليبيا ، ولم تجن منه سوى إعاقة المسار المرسوم لذلك .
_ أفول ظاهرة حفتر يعني ضربة قاصمة للمحور الإقليمي الداعم للثورات العربية المضادة،ولكن ذلك يبقى متوقفا على حذر الليبيين من أطماع الغرب البترولية المفرطة، ونزعاته إلى الهيمنة على مقدرات بلادهم وسياساتها الا ستراتيجية . نهاية حفتر نهاية طبيعة لها كثير من الشواهد التاريخية ، فإن الحذاء إذا بلى ليس لها مكان إلا المزابل.
وسوم: العدد 681