الوطن العربي لمسلميه ومسيحييه

واجه الوطن العربي وما زال يواجه موجات من التفرقة بين أبنائه مصدرها دائما الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية التي تجسدت في إسرائيل . وكلما نجحت تلك الموجات في حت وتعرية جزء من وحدة العرب تحركت لحت وتعرية جزء تالٍ ، وكل موجة لها فلسفتها وآلياتها . وشهدت سنوات  الأحداث الست الأخيرة التي اجتاحت المنطقة العربية ذروة عنف موجات التفرقة . وإذا كانت الموجات السابقة احتوت مساهمات عربية محلية فيها بقدر محدود فإن موجة السنوات الست شهدت أوسع مساهمة عربية في التفرقة والتدمير الذاتي العربي منجزة ما يستحيل أن تنجزه قوى الغرب والصهيونية بذاتها . اعتمدت الموجات القديمة على التفرقة بين المكونات العرقية والدينية في الوطن العربي ، ووسعت الموجة الحالية معايير التفرقة ؛ ففي الجانب الديني مثلا ؛ كانت التفرقة تتم وفق معيار الإسلامي والمسيحي . الموجة الحالية انقضت على المعيار الإسلامي نفسه ، وبدأت بالتفرقة بين السني والشيعي ، وتقدمت بعد النجاح الذي حققته ، فانقضت على السني حسب ما نراه  من خلافات وخصومات بين الوهابيين والإخوان والسلفيين والمتصوفة . وبالطبع لم تخمد التفرقة وفق المعيار الإسلامي المسيحي ، وبدأ ذلك بالعراق بعد الاحتلال الأميركي في 2004 حيث تعرض مسيحيوه لهجمات  اضطرت بعضهم إلى الفرار إلى خارج البلاد ، ومهما قيل إن ما تعرض له مسيحيو العراق تعرض له مسلموه يظل أن مسيحييه استهدفوا ضمن مخطط _ كما يقال _ يريد إخلاء الشرق الأوسط من المسيحيين ، والغريب أن يكون وراء  المخطط الغرب المسيحي ! . وقبل احتلال العراق ، لوحظ أن عدد المسيحيين في فلسطين يأخذ في التناقص بالهجرة إلى الغرب . وبذلت على مدى الموجات  القديمة والموجة الحالية جهود وطنية مخلصة لمواجهة التفرقة حسب المعيار الإسلامي والمسيحي . وفي مصر اهتدى الوطنيون المصريون  مبكرا  إلى صيغة قوامها " الدين لله والوطن للجميع "  تنسجم مع النص القرآني الكريم " لا إكراه في الدين ... " . وقبل ذلك واجه المسيحيون في الشام الدولة العثمانية بتوكيد أنهم مكون أصيل من مكونات الحضارة العربية الإسلامية، وأنهم أقرب من الأتراك إلى الثقافة الإسلامية ، بل قالوا إنهم أولى منهم بالقرآن الكريم ، وشرعوا يقرؤونه ويحفظونه . ومطالعة الأدب العربي الشامي الذي كتبه مسيحيون تكشف عن ظلال قوية لمعاني القرآن وألفاظه وصوره في هذا الأدب شعرا ونثرا ، وهو أمر طبيعي ؛ فليس أديبا عربيا من لا يتأثر بالقرآن معجزة العربية البيانية الكبرى أيا كانت ديانته ، وحتى الكتاب اليهود العرب استعانوا بالقرآن لتقويم أساليبهم الكتابية وإكسابها إشراقا ونصاعة . وقدمت سوريا ، وحتى يوم الناس هذا ، أقوى صورة للتماسك الإسلامي المسيحي في ظل سقف الوطن الواحد حتى ليصبح مسيحي وزيرا لدفاعها مثلما في حالة داود راجحة . ونفس الصورة كانت في فلسطين التي لا يلتفت فيها أحد إلى ديانة من يتعامل معه . وبرزت في الثورة الفلسطينية قيادات مسيحية كبيرة مثل جورج حبش ونايف حواتمه ، وأسماء لامعة في الشعر مثل كمال ناصر الذي اغتالته إسرائيل في سبعينات القرن الماضي مع كمال عدوان ويوسف النجار . وكان الكاتب الفلسطيني نقولا الدر صاحب  أرفع كتاب عن القضية الفلسطينية ، ربما حتى الآن ، الموسوم ب" هكذا ضاعت وهكذا تعود " لا يخلي مكتبه من القرآن الكريم . الحديث عن فضل المسيحيين العرب الأقحاح والذين تعربوا على الحضارة العربية الإسلامية في كل عصورها يشبه حديث من يؤكد أن الشمس مصدر الحرارة في الكون ؛ لذا نوجز قائلين : إن المسيحيين هم الذين ترجموا إلى العربية المعارف والعلوم اليونانية زمن الدولة العباسية ، وفي العصر الحديث أسهموا بنصيب وافٍ مؤثر في النهوض الأدبي والعلمي والثقافي والسياسي العربي لقوة صلتهم المبكرة بالثقافة الأوروبية ، بحكم وحدة الديانة ، التي قدَرتهم على إتقان اللغات الأوروبية قبل مواطنيهم المسلمين ، فكانوا أول واضعي المعاجم  بهذه اللغات مع مقابلها العربي ، وأول المؤلفين في  تاريخ الأدب العربي مثل الأب لويس شيخو ( 1859 _ 1928 ) واضع كتاب " تاريخ الآداب العربية " ،  واللغوي  الأب أنستاس الكرملي ( 1866 _ 1947) الذي كان يستعظم الخروج على  اللغة العربية ويعده خطأ لا تسامح فيه ، وجرجي زيدان الذي كتب تاريخ الإسلام بأسلوب روائي مستلهما نهج الأسكتلندي أوسكار وايلد ، وأنشأ في مصر مجلة " الهلال " الحالية في 92 18التي تحسب الآن أقدم مجلة ثقافية عربية . وأسس الأخوان سليم وبشارة تقلا جريدة " الأهرام " في الإسكندرية في 27 ديسمبر / كانون الأول 1875 أسبوعية الصدور . ولباب الأمر : لا عالم عربيا بلا مسيحيين ؛ لأنهم مكون بشري وحضاري أصيل تاريخيا ومستقبليا من هذا العالم ، وكانت كثرة الردود وقوتها على ما اعتبر بحق منذ أيام إساءة للإخوة الأعزاء مسيحيي فلسطين؛ مؤكدة لهذه الحقيقة الكبيرة ؛ فالوطن العربي لمسلميه ومسيحييه في السراء والضراء ، وعلى كل الأعداء المفرقين بينهم مهما اختلفت سحنهم البشعة وغاياتهم ووسائلهم الدنيئة الفاسدة . الإسلام والعروبة شجرتان كبيرتان تظلان كل من طهر قلبا  وحسن مسلكا .

                                            ***

قال مدير مدرسة عراقي لجأ إلى سويسرا بعد العدوان الأميركي إنه لم يعلم إلا بعد ستة أشهر من العام الدراسي أن أحد مدرسي اللغة العربية في مدرسته مسيحي ، وبرر عدم علمه قائلا : " كيف أعلم أنه مسيحي وأنا لا أسمعه إلا مرددا : قال الله ، وقال الرسول ؟! " .

وسوم: العدد 686