مهنية «الجزيرة»… عندما يتحدث إعلام «السح الدح إمبو»!
لا تشغل بالك، بمحاولة الوقوف على معنى «السح الدح إمبو»، ففي الحقيقة أنها عبارة بلا معنى، وهي عنوان لأغنية ذاعت وانتشرت في سبعينيات القرن المنصرم، ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اعتمدها الرئيس السادات، والذي كان «سداحاً مداحاً» حسب وصف الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، وهى الفترة التي تغير فيها كل شيء بما في ذلك الذوق العام للمصريين، ومن شعب عرف أم كلثوم، وعبد الوهاب، وفريد الأطرش، ونجاة، إلى صعود طبقة أخرى، كان يلزمها مطرباً بمستوى «أحمد عدوية»، ليغني لها «السح الدح إمبوا»، فقد توارى الرقي، في هذه المرحلة، وتخطى الرقاب «عدوية» وأمثاله، ممن مثلوا المرحلة وفي المجالات كافة! وإذا كان التلفزيون المصري، ظل محافظاً على وقاره، ومستمسكاً بالأداء الرصين، فالانفتاح الإعلامي بقيمه التي أرساها، تأخر للسنوات الأخيرة في عهد حسني مبارك، ثم صار على النحو الذي نشاهد، من أداء لإعلاميين في عهد الانقلاب العسكري، يفتقدون للوقار والرصانة، لأنهم في الأصل هم أبناء «أحمد عدوية»، الذين تمددوا في الإعلام فمثلوا فضيحة يتغنى بها الركبان، وصار «السح الدح إمبو» هو شعار المرحلة الجديدة، ولا غرو فعلى رأس السلطة من إذا تحدث أضحك وإذا صمت أدهش، فكان لا بد من أن يكون إعلامه على هذا المستوى الرفيع من البلاهة! وهذا الحضور لورثة «أحمد عدوية»، لا يعني سوى أن الأزمة أصابت السطح، فعندما تتحول قناة «ماسبيرو زمان»، إلى القناة المفضلة لمعظم من يعرفونها، فإن هذه العاهة المستديمة، التي تسمى إعلاماً، ليست تعبيراً عن مصر الحقيقة، التي تنحدر للحضيض الذي يمثله إعلامها المسموح له بالبث، والذي يجد الرعاية من دوائر الانقلاب إقليمياً، لاحظ أن من يدير المشهد الإعلامي في المحروسة هو «محمد دحلان»،والذي يُستقبل في المؤسسات الإعلامية المصرية باعتباره «المفكر الضرورة»! «ماسبيرو زمان»، لمن لا يعلم، هي قناة تعرض البرامج والدراما القديمة، ويشعر المرء بمتابعتها، وقلة البضاعة، بحجم الجريمة التي ارتكبت في زمن وزير الإعلام صفوت الشريف، وهي المرحلة التي شهدت تهريب مكتبة التلفزيون وبيع تراثه لقنوات خليجية، كما وسد الأمر لغير أهله، ممن لا يعرفون قيمة هذا التراث، فكنا نسمع عن القيام بإعادة التسجيل على الاسطوانات التي تمثل قيمة تراثية، لعدم الوعي بأهميتها، لأن الانفتاح كان قد وصل للمبنى، وكان «زمن عدوية» هو من يحكم، وهو من بيده عقدة الأمر!
التحرش بـ «الجزيرة»
وليس هذا موضوعنا، ولكن كما يقولون فإن الكلام يجر بعضه بعضا، والشيء بالشيء يذكر، فالغريب أن الإعلام المصري بدلاً من أن ينشغل بحاله الذي لا يسر عدواً ولا حبيباً، فإنه لا يتوقف عن التحرش بقناة «الجزيرة»، فالتاجر عندما يفلس يفتش في دفاتره القديمة، فبدت حلقة برنامج «العاشرة مساء» على قناة «دريم» في الأسبوع الماضي عن مهنية «الجزيرة» وضيوفها، كما لو كانت حلقة قديمة عمرها ثلاث سنوات، وتم استدعاؤها من الأرشيف وإعادة بثها، لسفر مقدم البرنامج أو مرضه. فالآن يجري من جديد، الحديث عن المرحلة التي تلت الانقلاب، وعندما أغلق مقر قناة الجزيرة، بقرار من السلطة العسكرية، وفي سبيل حرصها على شعارها «الرأي والرأي الآخر» فقد استضافت ضيوفها في الدوحة. ولأنه لم يجد جديد ، فكان الحديث معاداً ومكرراً وسبق أن قيل قبل ذلك، سواء من طرف من جاءت تمثل الرأي الوطني، الذي رفض بيع مبادئه، رغم المعروض عليه، وقد قالت إنه عرضت عليها أرقام فلكية، وبـ «الدولار» الذي هم بها وهمت به، لكنها في الأخير قالت: معاذ الله. أو من طرف من لم يجد عنده عوائق وطنية وظهر على القناة! هذه «الاسطوانة المشروخة»، وجلسات النميمة التلفزيونية ضد قناة «الجزيرة» ذكرتني بزمن خالد الذكر صفوت الشريف، عندما كنا بين الحين والآخر نشاهد جلسة نصبت على الشاشة، للحديث عن عدم مهنية «الجزيرة»، وإذا كان لا بد من شخص محسوب على المعارضة لاستكمال الشكل، فقد كان هذا المعارض هو «نبيل زكي»، أحد قيادات حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. الخ.. الخ! يتغير الضيوف في كل مرة، ويبقى الثابت أبدا، هو القيادي في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. الخ .. الخ!، والرجل ملامح وجهه معبرة، وهي ملامح شخص يتيم الأبوين، وربما أقرب إلى من ذاق نكد زوجة الأب. أتحدث عن ملامح وجهه وليس لي علم بنشأته. وتعبيراته كانت تليق بمشهد الضحية لقناة «الجزيرة»، وهو موضوع واحد لا يتكرر، فقد استضافته «الجزيرة»، وقبل أن ينتهي من كلامه، أغلقوا «السكّة في وجهه»، لأن رأيه لم يكن على هواهم، وهذا هو الدليل الحي على أن «الجزيرة» تحجر على «الرأي الآخر»، وتريد من ضيوفها أن يتحدثوا حسب أجندتها، وإلا أغلقت السكة في وجوههم. ومع تعبيرات وجهه وملامح اليتم وهو يتحدث عن إغلاق السكة في وجهه لا بد أن تنتابك حالة من التعاطف معه، تدفعك لأن تخرج مسدسك، وتصوبه على جهاز التلفزيون، وتطلق طلقة، تشفي بها الغليل، عندما تشعر أنها أصابت «خديجة بن قنة» في مقتل!
عقدة الاضطهاد :
لم أشاهد اللحظة التاريخية، التي أغلق فيها «مذيع الجزيرة» السكة في وجه صاحبنا، فتسبب في عقدة الاضطهاد التي عانى منها كثيراً، وكانت تظهر معاناته على الناس، كلما استضافه التلفزيون المصري في حلقة تستهدف التأكيد على أن «الجزيرة» قناة منحازة، وليست مهنية، ولا تؤمن بالرأي الآخر! اللافت أنه لم يحدث مرة، أن ذكر «نبيل زكي» معلومة جديدة بدلاً من هذا الملل، فلم يقل من هو هذا المذيع الذي تسبب في تكريس عقدة الاضطهاد لديه، وهل كان في برنامج أم في نشرة، فربما كانت استضافته لدقائق في نشرة للأخبار، والأمر يكون محكوماً بعامل الوقت، وهو محظوظ، لأن اللقاء لم يكن في زمن «شكراً»، الاختراع الفضائي الجديد، عندما ينبه المذيع ضيفه بأنه ليس أمامه إلا أن يسكب ما في فمه من كلام، ولا يجتر كلاماً آخراً من أمعائه، وهى كلمة تقال بشكل أقرب إلى القول: إلى الجحيم، وثكلتك أمك! لأن كل وقت وله آذان، فهذا ليس زمن «نبيل زكي»، وإنما هو زمن من شاركوا في ثورة يناير/كانون الثاني، وشاركوا في الانقلاب عليها في 30 يونيو/حزيران، فلأن هناك ضرورة، لا أعرفها ويُسأل عنها سكرتير السيسي عباس كامل للهجوم على «الجزيرة»، فكانت هذه الحلقة التي استدعيت إليها كاتبة، كانت تعلق على صدرها صورة السيسي للدعاية له، ظناً منها أنها ستجد لنفسها موقعاً في حكمه، فاتها أن الأجهزة الأمنية التي سجلت لها هتافاتها على سلالم نقابة الصحافيين بسقوط حكم العسكر، قد عادت للحكم، وهي تناصب كل من شارك في 25 يناير العداء، وقد عادت لتنتقم منهم ولو تعلقوا في أستار قصر الاتحادية! وعلى طريقة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، في السيرة الهلالية «قول يا عم جابر» كإشارة للانتهاء من كلامه، والطلب من شاعر الربابة «جابر أبو حسين» لأن يروي وينشد، فلما انتهى مذيع «العاشرة مساء» من مقدمته كان لسان حاله هو: «قول يا عم جابر»، فعادت لتكرر ما قالته نفسه وصار محفوظاً، فهناك شخص اسمه «معوض»، هذا الـ «المعوض» اتصل بها، وعرض عليها استضافة الجزيرة لها في استوديوهاتها في الدوحة، فلما سألته عن سقف حريتها، قال لها من حقك أن تقولي ما تريدين، ولو تريدين سب الجزيرة نفسها، وقد عرض عليها مكافأة يومية معتبرة نظير مشاركتها! كلام معاد، ومكرر، وقديم، لكنها لم تكن مثل يتيم الأبوين صديقنا الأستاذ «نبيل زكي»، فقد كان لديها جديد، فلم تحدد هذه المرة المكافأة التي عرضت عليها، وقالت إنها فلكية وبالدولار، وضغطت على الدولار، حتى ساهمت في طيرانه، وحسب كلام بلدياتنا «شرشوب همام» فك الله أسره، في الفيديو الشهير: «الدولار طار في السماء»، في حديثه عن فشل عبد الفتاح السيسي، الذي قال «ِشرشوب» إنه لا يصلح لحكم مصر!
منصة الثورة
كان في المقابل مجدي حمدان، وهو مؤيد للانقلاب على شرعية الرئيس المنتخب مثلها تماما، لكنه قبل استضافة «الجزيرة» له وقال إنه كان يعرض رأيه بحرية، وبدون تضييق عليه. وماذا يريد المرء أكثر من منبر إعلامي يسمح له بأن يدافع عن فكرته وعن رأيه، ويتصدى للرأي الآخر! بيد أن من تحدثت من منصة الثورة، وتقبل استضافة قنوات الفلول وأعداء الثورة، ترى أن تركيا وقطر تمولان الهجوم على الدولة المصرية. وهو كلام إعلاميي مبارك عندما كانوا ينظرون لاستضافة أمثالها في القنوات على أنها خيانة، وعمل غير وطني، ويخلطون بين الدولة وبين النظام، وبين مبارك ومصر، فلماذا كانت تهتف بسقوط حكم العسكر إذن؟! وقد تنحى مبارك وبقيت الدولة المصرية، التي وصفها السيسي بأنها «أشباه دولة»، فمن يمكنه أن يمول الهجوم على من يهاجم «أشباه الدول»؟! بل ويعرض على من يدافعون عن «أشباه الدول» أرقاماً فكلية وبالدولار حماه الله؟! يا إلهي هل لا يزال هناك من يردد هذه الخزعبلات، ويرى أن الظهور على قناة الفلول والثورة المضادة، عمل وطني، وأن الخيانة في الظهور على شاشة «الجزيرة»، التي انحازت للثورة وكانت عاملاً من عوامل نجاحها، لا سيما في يوم موقعة الجمل عندما نقلت مشهد تواطؤ العسكر مع نظام مبارك ضد الثوار في هذا اليوم للعالم كله، ويأتي الآن وبعد أن تبين الرشد من الغي، وثبت أن مهام السيسي هي تحقيق الأمان لإسرائيل، وأنه فرط في الأرض وفي الثوابت الوطنية، من يجرم الظهور على شاشة «الجزيرة» ويكرر التباهي برفضه استضافتها، إلى غير هذا من «كلام ماسخ» فقد معناه، بعد أن وقف الجميع على حقيقة السيسي وفشله! لقد سئلت عن معنى «الكلام الماسخ» الذي يردد على ألسنة الصعايدة في الدراما؟ وأقول: هذا هو الكلام الماسخ!
وسوم: العدد 691