مؤتمر "فتح" نهاية مرحلة وبداية أخرى

بدأت، أمس، أعمال المؤتمر السابع لحركة فتح داخل أسوار المقاطعة (مقر الرئيس الفلسطيني)، وهو مؤتمر يختلف، في تركيبته وظروف انعقاده وأهدافه ونتائجه، عن كل المؤتمرات السابقة للحركة. ومن دون أن نستبق نتائجه التي تبدو واضحة تمامًا من مقدّماته، ولن تغيّر من اتجاهها الرئيسي خروقات أو مفاجآت هنا وهناك، إلا أنه يمكن لأيّ مراقبٍ ذي صلة أن يُجمل السمات العامّة لما يجري، ولما هو متوقع. يضم المؤتمر نحو 1400 عضوٍ اختيروا على أساسٍ تمثيليّ ووظيفيّ، وخضعوا لمراحل تصفية متعدّدة، تحكّمت بها التوازنات ورضى الرئيس والتقارير الأمنية، وغَلب عليها مقياس الولاء، واستثناء المعارضة والرأي الآخر، بحجّة التخلّص من المتجنّحين (مجموعة محمد دحلان). كما تميّزت بغياب حقيقيّ لقدامى المناضلين، وتهميش كبير لتمثيل الشتات الفلسطينيّ، بحيث يصدُق عليه القول إنّه مؤتمر للسلطة الفلسطينية وكوادرها العاملة. شهدت الأجواء التحضيرية للمؤتمر ظاهرةً غريبة لم تعهدها "فتح" من قبل؛ إذ امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بإعلانات انتخابية مباشرة للمرشحين لعضوية المجلس الثوريّ واللجنة المركزية، بل وجرى استحداث صفحة عنوانها "مرشحي المؤتمر السابع لحركة فتح"، ضمّت صوراً ودعايات ممجوجة للمرشحين، وكأنّ الجمهور الناخب هو جمهور "فيسبوك"! واللافت أن مجمل هذه الدعايات افتقر لأيّ برامج نضالية أو سياسية، واكتفى بعرض سِير ذاتية للمرشحين الذين تجاوز عددهم المئات. كما ترافَق ذلك مع إعلاناتٍ لتجمّعاتٍ جهويةٍ تعرب عن اختيار ممثلين لها أو تأييد آخرين، في الوقت الذي شهدنا فيه تسريباتٍ لتسجيلاتٍ (بعضها مفبرك وبعضها قديم) ترفع من قيمة هذا المرشح، وتحطّ من قيمة ذاك، بما يشي بأن ثمّة تصفية حسابات كبرى، تجري بين بعض القيادات الحالية وما يرتبط بها من أجهزة ومحاور. ثمّة في المؤتمر مؤشّرات واضحة على تكوّن طبقة سياسية جديدة، تتألّف من تحالف كبار العاملين في السلطة مع قادة الأجهزة الأمنية، وشريحة من رجال الأعمال أصحاب المصالح الاقتصادية، المستفيدين من العمل مع دوائر السلطة المختلفة. وسيُلقي هذا التحالف بظلاله على طبيعة المرحلة المقبلة لحركة فتح والسلطة الفلسطينية، حيث سيكون الهدف الرئيسي هو إدارة العلاقة مع الاحتلال، وليس دحره أو إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما سيؤدي إلى سلسلة من المتغيّرات على هذا الصعيد، تتعلق بالنظرة إلى الاحتلال، والاكتفاء بتكوين ما يشبه الإدارة الذاتية ضمن التجمعات السكانية الكبرى، أي أن السلطة المقبلة تتّجه نحو التخلص التدريجي من فكرة "حلّ الدولتين"، والقبول بحكم ذاتيّ محدود على السكان، وليس على الأرض. بعد انتهاء أعمال المؤتمر السابع في رام الله، فإن مؤتمرًا آخر يجري الإعداد لعقده في القاهرة، 

وربما بالتسمية نفسها (المؤتمر السابع)، تنظّمه مجموعة محمد دحلان. وقد بدأت الاستعدادات لعقده، فثمّة اتصالات تجري مع مجموعاتٍ فتحاويةٍ متعدّدة للانضمام إليه، كما أن نسخًا من مسوّدة أولى لبرنامجه السياسي قد تسرّبت، وهاجسها تبرئة المجموعة المذكورة من تهمة التسبّب بالانقسام، أو عرقلة تسليم السلطة لحركة حماس، بعد الانتخابات التشريعية التي فازت بها، بحيث يتخيّل المرء أنّ تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية يبدأ من هذه النقطة. في الحقيقة، لا يختلف كل من البرنامجين عن بعضهما، في مسوّدته الأولى، إلا في بعض التفاصيل. لكنّ مؤتمر محمود عباس المنعقد أو مؤتمر محمد دحلان المتوقع انعقاده يتباريان في التراجع خطواتٍ عن المشروع الوطني الفلسطيني. من المتوقع أن يستقطب محمد دحلان ومجموعته أفرادًا أو مجموعات أخرى محدودة، وضعها الرئيس عباس، بفعل المناخ الإقصائيّ، في طريقه. لكنْ، ثمّة مجموعات أكبر لا نعرف بعد مدى ردة فعلها على ما تعرّضت له من إبعادٍ مبرمج، فبعضها يختلف جذرياً عن الخطّ السياسي الذي يقوده الرئيس محمود عباس، وبعضها الآخر غاضبٌ لإبعاده سابقًا عن مواقع المسؤولية، ولاحقًا عن المؤتمر الحالي، وستضاف إليهما مجموعة ثالثة من الساخطين على نتائج المؤتمر. لكن ما سيجمع بين هذه المجموعات ابتعادها الفعلي عن حركة فتح وشعورها بأنها أصبحت جميعها خارج المسار الجديد للحركة. ليس الانقسام في صفوف فتح أمرًا سهلاً، ولا مستحبًا، بطبيعة الحال. تاريخيًا، كانت ثمّة تيارات مختلفة في داخل حركة فتح، لكنّ أيّ تيارٍ، مهما اقترب أو ابتعد عن دائرتها المركزية، لم يكن ليأخذ بعدًا انشقاقيًا، إلا عبر تدخّلات ورعاية عربية. في هذه المرة ثمّة أربع دول عربية (الرباعية العربية) تدعم مثل هذا الانقسام، ومهما حاول الرئيس محمود عباس التخفيف من آثاره، فإنه سيترك ندوبًا عميقة على الجسم الفلسطيني، ليس بفعل التدخّلات العربية والانقسام فحسب، وإنّما أيضًا بفعل سياسات عباس في مواجهته. في هذا السياق، لن ينحصر أثر الحجر الذي يلقيه الرئيس عباس في المياه الفلسطينية على 

حركة فتح فحسب، فثمّة تصريحات ومواقف متعدّدة تفيد بأن الخطوة المقبلة، بعد المؤتمر السابع، هي عقد جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني، والخشية الكبرى أن تكون تكرارًا لسيناريو المؤتمر السابع لحركة فتح، ومحاولة جديدة لتكرار دعوته السابقة، قبل نحو عام، لعقد جلسة للمجلس الوطني. تلك الدعوة التي أُفشلت عبر ضغط شعبيّ واسع، إذ سيعني إصرار الرئيس على عقد جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني، بمواصفاته الحالية، انتهاء منظمة التحرير كياناً معنويّاً للفلسطينيين. ينبئ مجمل التطورات التالية لانعقاد المؤتمر السابع بفراغ واسع متوقّع حدوثه في الساحة الفلسطينية نتيجة غياب حركة فتح أو تغييبها عن المشهد السياسي والنضالي العام، والتاريخ لا يحتمل فراغًا. ولأنّ القضية الوطنية للشعب العربي الفلسطيني أكبر من الهيئات والحركات والأفراد، مهما كان دورهم كبيرًا وعظيما في بعض مراحل النضال، فإنّ ثمّة إرهاصات جديدة، عابرة للفصائل وللحدود، حتمًا ستولد لتبقى رايات تحرير فلسطين عاليةً وخفّاقة، فلعلها نهاية مرحلة وبداية أخرى.

وسوم: العدد 696