حرص الأسر المغربية على تعليم أبنائها مع الإهمال الكلي لتربيتهم
بالرغم من كون التعليم وسيلة للتربية ، فإنهما لا علاقة بينهما في الثقافة السائدة لدى الأسر المغربية التي لا تضع كهدف حين ترسل أبناءها إلى المؤسسات التعليمية تربيتهم، وإنما تحكمها خلفية برغماتية تتمثل في الحرص على تعليم أبنائها للحصول على شواهد تخولهم ولوج سوق الشغل دونما أدنى اهتمام بتربيتهم . ويبدأ تركيز الأسر المغربية على تعليم أبنائها دون اهتمام بتربيتهم منذ مرحلة الرياض أو التعليم الأولي، وهي مرحلة غالبا ما تضطلع بها مؤسسات التعليم الخصوصي لأنها لا زالت شبه غائبة في التعليم العمومي الذي يقتصر على ما بعد هذه المرحلة . ومعلوم أن التربية الأسرية وهي تربية غير نظامية تختلف باختلاف العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تحكم الأسر. ومعلوم أيضا أن هذه التربية لا تخضع لضوابط، بل هي تربية عشوائية تتوقف على طبيعة ذهنية أو عقلية الآباء والأمهات حسب مستوياتهم الثقافية . وتخضع نشأة الصغار للبيئة التي تحتضنهم بدءا بالبيت الأسري أوالعائلي ، ومرورا بالحي أو الحارة والحاضرة أو القرية، وانتهاء بالقطر . ولا يمكن أن تخرج تنشئة الصغار عن إطار تأثير المحيط عملا بمقولة الإنسان ابن بيئته . ولئن اختلفت أنماط التنشئة من أسرة إلى أخرى ، فإنها تلتقي عند نقط مشتركة ، وقد يكون هذا الالتقاء بفعل ظاهرة التقليد المسيطرة على الذهنية المغربية بشكل واضح إذ لا يكاد سلوك يظهر في بيئاتنا حتى ينتشر انتشار العدوى دونما افتحاص أو تريث أو تبين . والمتردد على المؤسسات التعليمية التي تستقبل أطفال الحضانة أو التعليم الأولي، وهي في الغالب مؤسسات التعليم الخصوصي سواء الحاصلة على ترخيص من الوزارة الوصية على التعليم أو التي تشتغل في فوضى ودون ترخيص، ولا حاجة للخوض في موضوعها الآن ، يلاحظ أن الأمهات والآباء بعضهم يصطحبون يوميا أبناءهم إلى المؤسسات في حين أن البعض يوكل هذه المهمة إلى النقل المدرسي ولا يزورون المؤسسات إلا لأداء الواجب الشهري أو لطارىء ما . وتكاد معظم مؤسسات التعليم الخصوصي تعمل بنظام الأبواب المغلقة بحيث لا يعرف الآباء والأمهات شيئا عما يحدث داخل الفصول الدراسية ، وقد تعلن بعض المؤسسات عن أسبوع يتيم في السنة عن أبواب مفتوحة في وجه الآباء والأمهات ،و يخطط لها لتحقيق أهداف إشهارية فقط ، ولا تعكس واقع ما يجري في الفصول الدراسية أثناء فترة الأبواب المغلقة، وهي فترة تستغرق المواسم الدراسية بكاملها . وقد يكتشف بعض الآباء والأمهات عن طريق الصدفة بعض ما يجري خلف الأبواب المغلقة أثناء زيارة فجائية يفرضها ظرف ما . والغالب على الأمهات والآباء سؤال أبنائهم عما تعلموا، ويكون قصدهم القراءة والكتابة ، وقد يتصل بعضهم بإدارات المؤسسات لتسجيل ملاحظاتهم أو حتى شكاياتهم أو تبرمهم من ضعف مردودية أبنائهم في القراءة والكتابة، ولا يخطر أبدا ببال هؤلاء الآباء والأمهات التفكير في ما يطرأ على سلوك أبنائهم من تغيير، وهو ما يدخل ضمن التنشئة أو التربية النظامية المقابلة للتنشئة أو للتربية الأسرية غيرالنظامية ، ذلك أن الصغار في سن الحضانة وسن التعليم الولي يفدون على المؤسسات التعليمية بتنشئة أو تربية أسرية متباينة حسب اختلاف أوساطهم الاجتماعية ، والمفروض في المؤسسات التعليمية أن تصهرهم في بوتقة تنشئة أو تربية موحدة أو نظامية . ومن المفروض أن تشعر الأسر بالتغييرات الطارئة على أبنائها في سلوكهم خلال ارتيادهم للمؤسسات التعليمية إلا أن ذلك لا يحصل في الغالب . وتعتقد معظم الأسر أو تدعي أن تنشئة وتربية أبنائها في البيوت عبارة عن تنشئة وتربية مثالية ،علما بأن الغالب على هذه التنشئة أو التربية طغيان العاطفة المندفعة حيث تحرص كل الأسر بدافع هذه العاطفة على دلال أبنائها بكل الأشكال وفي كل المواقف والأحوال . وقد تلعب الأمهات دورا سلبيا كبيرا في تكريس دلال أبنائها ، ويجاريهم الآباء في ذلك تحت تأثير طبيعة العلاقات الزوجية المحكومة أيضا بالعاطفة التي تغيب معها الموضوعية . وقد ترى بعض الأسر في الطبيعة العدوانية لأبنائها مفخرة تفاخر بها دون الانتباه إلى عواقبها الوخيمة عليهم . وتعاني المربيات أو المدرسات أشد المعاناة مع الصغار غير المنضبطين من ذوي الطبيعة العدوانية، علما بأنهن لا يخضعن لتكوين خاص في مؤسسات أو معاهد متخصصة في تلقين التعامل مع هذه الشريحة من الصغار. وتسيطر أنماط التنشئة أو التربية الأسرية داخل المؤسسات التعليمية ، وهي عبارة عن نشاز، علما بأن السلوكات غير المرضية لدى بعض الأطفال بفعل تنشئتهم أو تربيتهم الأسرية تنتشر عدواها بين غيرهم في غياب تأثير التنشئة أو التربية النظامية للمؤسسات . والملاحظ أن تنشئة أو تربية الصغار في مرحلة الرياض أو التعليم الأولي توكل في الغالب للعنصر النسوي ، وهو تقليد سائد في مؤسساتنا ، وربما يعتقد أن العنصر النسوي هو المؤهل للقيام بدور التنشئة أو التربية في هذه المرحلة استكمالا للتربية الأسرية التي تضطلع بها في الغالب الأمهات ، في غياب تام لدور الذكور في التنشئتين أو التربيتين معا الأسرية والمؤسساتية، علما بأن التنشئة أو التربية السوية والسليمة والفعالة لا بد أن تتضافر فيها جهود العنصرين معا تبعا لطبيعة الحياة الأسرية . وليس من الحكمة أن يتنازل عنصر لآخر في تنشئة أو تربية الصغار لأن الأبوين معا مسؤولان عن ذلك كما تؤكد ذلك ثقافتنا الإسلامية من خلال الحديث النبوي الشريف : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه ... " وعلى غرار التنشئة أو التربية على التهويد والتنصير تكون التنشئة والتربية على سلوكات أخرى مخالفة للفطرة التي يولد عليها الصغار، والتي تصدر إلى المؤسسات التعليمية ، وتؤثر تأثير عدوى المرض على مجموع الصغار المنتمين إليها دون علم أو وعي من الآباء والأمهات بذلك ، وهكذا يتدخل الآباء والأمهات الذين يرسلون أبناءهم إلى نفس المؤسسات التعليمية في تنشئة أو تربية أبناء بعضهم البعض التربية الأسرية دون شعور أو وعي منهم ، علما بأن تقليد الصغار بعضهم البعض سلوك متأصل في الجنس البشري خصوصا في هذه المرحلة العمرية التي تتميز بالفضول وحب المعرفة والاستكشاف ، و هو يدخل ضمن عملية التنشئة والتربية . وغالبا ما يرتاد بعض الآباء والأمهات المؤسسات التعليمية للاحتجاج على استعمال أبنائهم كلمات أو عبارات مخلة بالخلاق لم تعهد فيهم أو يطالبون بفصل أبنائهم عن غيرهم ممن يعتقدون بسوء تنشئتهم أو تربيتهم لأن الاعتقاد السائد لدى الجميع هو شعار : " تربية أبنائي هي التربية المثالية خلاف تربية غيرهم ". وقد يرتاد الآباء والأمهات المؤسسات للاحتجاج على اعتداء أبناء غيرهم على أبنائهم مستنكرين سوء تنشئة أو تربية أبناء الغير إلا أنهم حين يكون الاعتداء من طرف أبنائهم على غيرهم يميلون إلى التبريرات والذرائع الواهية للتملص من المسؤولية ، وقد يحملون المؤسسات التعليمية تلك المسؤولية مع يقينهم وقناعتهم التامة أن الاعتداء صادر عن أبنائهم . ومن المؤسف جدا أن الآباء والأمهات لا يعيرون أدنى اهتمام لأرصدة أبنائهم من التربية مقابل الحرص على تتبع أرصدتهم المعرفية ، وهو سلوك يبدأ من مرحلة الحضانة والتعليم الأولي، ويستمر في جميع مراحل التعليم ، ويصير انعدام الأرصدة التربوية كرة ثلج في آخر مرحل التعليم، وتكون النتيجة جيلا كاملا محروما من التربية السوية ،وينقل بدوره تجربته السلبية إلى الجيل الذي يليه ، وهكذا تضيع تربية الأمة برمتها . ومن أجل صيانة تربيتها تحرص بعض الأمم مثل أمة اليابان على سبيل المثال حسب ما يذاع في وسائل الإعلام على أن تكون مرحلة الحضانة والتعليم الأولي خاصة بتنشئة وتربية مؤسساتية صحيحة تقوّم مسارات التنشئة والتربية الأسرية الناقصة أو الخاطئة أو المنحرفة . ونريد من مؤسساتنا في دور الحضانة والتعليم الأولي أن تركز على التنشئة والتربية من خلال تلقين الصغار السلوكات الصحيحة والمنضبطة والمعدلة للسلوكات الخاطئة وغير المنضبطة التي ينقلونها من أوساطهم الأسرية . فإذا كان الصغار لا يتعلمون في بيوتهم على سبيل المثال لا الحصر تنظيف أسنانهم أو أطرافهم أو لا يتعلمون تنظيم وترتيب أشيائهم أو لا يجيدون الأكل والشرب أو ارتياد دورات المياه أولا ينضبطون في جلوسهم أو لعبهم ... إلى غير ذلك من السلوكات ، فعلى المؤسسات التعليمية أن تركز على هذه السلوكات عوض الانشغال فقط برسم الحروف والشكال أو التلوين أو ماشابه . وعلى الآباء والأمهات أن يسألوا عما حصّله أبناؤهم من سلوكات عوض الانشغال بما يخطونه من خطوط ويرسمونه من رسوم ، ويحصلون عليه من علامات. وعلى هؤلاء الآباء والأمهات أن يضعوا العاطفة جانبا في موضوع تنشئة وتربية أبنائهم لأن العاطفة المتزنة هي التي تصاحب تنشئة وتربية سوية . وعليهم أن يعترفوا بأخطائهم في تنشئة وتربية أبنائهم التي تعكسها سلوكاتهم اليومية. فإذا كان الأبناء لا يجيدون ممارسة ما ينبغي عليهم فعله يوميا من نظافة، ونظام في بيوتهم ، ولا يفيدون شيئا من ذلك في ارتيادهم للمؤسسات التعليمية، فعلى الآباء والأمهات الوقوف مع أنفسهم بصدق وقفة مساءلة عن طبيعة تنشئتهم وتربيتهم لأبنائهم وعن أثر التنشئة والتربية المؤسساتية فيهم وعن قيمتها المضافة . ولئن تعلم الأبناء في مرحلة الرياض والتعليم الأولي على سبيل المثال كيفية تنظيف أسنانهم وأطرافهم ، وكيفية ارتداء ملابسهم وخلعها ،وكيفية الأكل والشرب الصحيحة ، وكيفية الجلوس واللعب ، وكيفية الاستحمام وارتياد دورات المياه ... إلى غير ذلك مما يحتاجونه في حياتهم اليومية دون اعتماد على غيرهم خير لهم ولآبائهم وأمهاتهم من مجرد تعلم القراءة والكتابة والاسترجاع أو الاستظهار . ومن المؤكد أن التنشئة أو التربية السوية تساعد على التحصيل الدراسي لأن تعلم الحس حركي في مرحلة الرياض والتعليم الأولي أهم من تعلم المعرفي، بل بالتمرن على السلوكات الحس حركية يتعلم الصغار ما هو معرفي . فمن يتعلم منهم على سبيل المثال الإمساك بفرشاة الأسنان، يتعلم بسهولة إمساك القلم ، ومن يتعلم ترتيب أدواته، يجيد ترتيب الحروف، والتمييز بين الألوان والأشكال . ومن يضبط سلوكاته اليومية المختلفة، يسهل عليه الحفظ والاسترجاع والاستظهار والتحصيل . وعلى المؤسسات التعليمية المضطلعة بتنشئة وتربية الصغار في مراحل الرياض والتعليم الأولي أن تكون صادقة مع نفسها وأن تراجع الطرق التي تعتمدها في التنشئة والتربية، وأن تعير اهماما لأطرها التربوية من خلال توفير التكوين المناسب لهم للاضطلاع بهذه المهمة الجسيمة ، وأن توفر البنيات التحتية والتجهيزات اللازمة لمزاولة هذه المهمة ، وألا تقتصر بنياتها التحتية على قاعات يحبس فيها الصغار في فترات صباحية ومسائية رتيبة تكرر فيها نفس الممارسة اليومية من رسم الخطوط والأشكال وتلوينها مع ارتياد دورات المياه ، وتناول طعام الاستراحة ، وارتداء المعاطف استعدادا للانصراف . وعلى الوزارة الوصية وهي تلوح بخطة الإصلاح الخمس عشرية 2015/2030 أن تنطلق من الرهان على التربية لا من الرهان على التعليم الذي هو وسيلة من وسائل التربية ، وأن تنطلق من رهان مرحلة الرياض والتعليم الأولي قبل غيرها . وعليها أن تستلهم تجارب الأمم المتقدمة تربويا كاليابان وفيلندا والتي يقال أن تربيتها تتبوأ المكانة الأولى في العالم .وعلى الوزارة الوصية على التعليم أن تعد برامج لتوعية الآباء والأمهات بأهمية الرهان على التربية قبل الرهان على التعليم ، وأن محتويات التعليم ما هي إلا وسائل تخدم التربية . وأخيرا نتساءل ما قيمة إعداد جيل لسوق الشغل في غياب إعدادهم تربويا ؟ وما قيمة طبيب أو مهندس أو مدرس أو موظف أو عامل أو فلاح أو مسؤول ... لا تربية لهم ؟ وما قيمة ثروة مادية دون ثروة بشرية ؟
وسوم: العدد 703