منبج تقاطع مشروع التفتيت في سورية
إعلان وزير الدفاع التركي، فكري أشيق، أن أولوية بلاده في مسألة مدينة منبج السورية هي للمحادثات الدبلوماسية، يعني أن تركيا مازالت تفاوض حليفها المفترض، واشنطن، على تسوية سياسية للأزمة السورية، وأن الأولوية هي للخروج بهذا التفاهم، شرط أن تلتزم الإدارة الأميركية الجديدة بالتعهدات القديمة المقدمة حول انسحاب قوات سورية الديمقراطية من المدينة، وتسليم الأخيرة للقوات التركية والجيش السوري الحر، لتكون جزءاً من مشروع المنطقة الآمنة المعلنة في أعقاب انطلاق عملية درع الفرات قبل ثمانية أشهر.
الإعلام التركي المقرب من حكومة "العدالة والتنمية" كان ينشر قبل أيام تسريباتٍ عن الخطة العسكرية التركية المعدة لدخول مدينة منبج، لكن الإعلام نفسه اليوم يتحدّث عن معرفة أنقرة لصعوبة الوصول إلى ما تريد، وأنها لهذا السبب حذرة في تحديد مواقفها وخطط تحرّكها، على الرغم من إعلانها عدم التخلي عن وجود الخيار العسكري الذي سيكون آخر البدائل، كما قال الوزير التركي، في حال الوصول إلى طريقٍ مسدود، سياسياً ودبلوماسياً.
تعرف أنقرة أن ما يجري على الأرض يتعارض مع ما تقوله هي، فكل التطورات الميدانية والسياسية تتقدم في منحى آخر، تحاول إدارة ترامب فرضه على الجميع في شمال سورية:
- واشنطن تضع اللمسات الأخيرة على تشكيل جيش الرقة، وهي لن تحزن كثيراً إذا لم يشارك الأتراك في هذه المعركة، إذا لم نشأ القول إن ذلك يفرحها، لأنه سيقلب معادلات "درع الفرات" لصالح غضب الفرات هذه المرة.
- وواشنطن تردّد أنها لا تحتاج إلى وحدات البشمركة السورية التي دربتها أربيل بمعرفة أنقرة وتشجيع منها في معركة الرقة، وإنها ستكتفي بخوضها مع وحدات صالح مسلم (قوات سورية الديمقراطية).
- وهي تقرر إرسال قوات عسكرية أميركية إضافية إلى شمال سورية، يصفها النظام السوري
بأنها قوات تدخل واحتلال، لكنه يفتح الطريق أمامها في إطار لعبة تحالفات واصطفاف محير، يجمع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والنظام السوري والمجموعات المحسوبة على إيران بغطاء عسكري أميركي روسي إيراني في مواجهة تركيا والجيش السوري الحر في منبج ومحيطها.
باتت خطة واشنطن في شمال سورية شبه واضحة، بعد وصول لقاءات تركية أميركية عديدة، في الأسابيع الأخيرة، إلى طريق مسدود، وفشل المحادثات العسكرية الثلاثية في أنطاليا بين قيادات الأركان التركية والروسية والأميركية، وعدم تفاهم الرئيسين، رجب طيب أردوغان وفلايدمير بوتين، في لقائهما أخيراً، على خطة تحرّك مقبولة، وترضي أميركا أيضاً حول نقطتي الخلاف الأهم: تفاصيل معركة الرقة ومن سيتسلم منبج.
تريد أميركا: - إنهاء خطة درع الفرات، وحصر حدود المساحة الجغرافية للمنطقة الآمنة التركية، بما هي عليه اليوم.
- تحويل منبج إلى قاعدة انطلاق عملياتها السياسية والعسكرية في سورية قبل تسليمها إلى حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ليضمها إلى مناطق نفوذه.
- إلزام روسيا بالتفاهم معها حول ما تقوله هي، وليس كما كانت تريد موسكو أن تفعل في تحديد مسار العمليات السياسية والعسكرية في سورية.
- محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الرقة، لكن الأولوية ستكون للضمانات والتفاهمات على حدود الكيان الكردي، والتسليم بحصته السياسية والجغرافية والدستورية.
- تسليم الملف السوري لروسيا، بعد تحقيق مطالبها تماماً كما فعلت في العراق، عندما تخلت عنه للنفوذ الإيراني.
- محاصرة المعارضة السورية بالتفاهمات الجديدة التي سيكون موضوع مصير الأسد والمرحلة الانتقالية في سورية آخر التفاصيل فيها.
يقول نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان كورتولموش، إن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي، وتتفرج على محاولة تشكيل دولة كردية على حدودها، لكنه يدرك تماماً أن العودة الأميركية السريعة والمفاجئة إلى قلب المشهد السوري لم تكن لتختار الحليف الكردي المحلي، لو لم تستغل تركيا غياب واشنطن القسري، وتحاول استغلاله باتجاه بناء فرض حالةٍ من الأمر الواقع عليها في سورية، تحرمها من المشاركة في تحضير الطبخة، وتلزمها بتناول ما يوضع أمامها على الطاولة. رفع العلم الأميركي على مداخل منبج ليس من أجل الفصل بين حليفيها، القوات التركية والكردية هناك، بل من أجل توفير الحماية الكاملة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وبالتالي الدويلة الكردية، وإفهام أنقرة أنها لا يمكن أن تحدد بمفردها من هو الإرهابي، خصوصاً إذا ما كان موالياً وحليفاً لواشنطن، ويحقق لها ما تريد.
فشل تركيا في الجمع بين واشنطن وموسكو حول تفاهمات مشتركة في سورية قد يدفع اللاعبين
الدوليين إلى التفاهم بدونها هناك. لذلك، تجد نفسها اليوم وجهاً لوجه أمام قرارات خطيرة ومكلفة، قد تفتح الطريق أمامها في شمال سورية، لتصل إلى ما تريد، أو ترى نفسها محاصرة ومعزولة وراء الجدار العظيم الذي بنته على الحدود التركية السورية، لتحمي نفسها من الخطر القادم من الجنوب.
لا نعرف تماماً إذا ما كانت النقلات التركية، أخيراً، باتجاه واشنطن، مثل الإعلان عن اقتراب التوصل إلى صفقة تزويد تركيا بصواريخ إس - 400 الروسية ومبادرة أنقرة بدعوة العشائر العربية في شمال سورية للاجتماع في مدينة أورفا التركية الحدودية، لبحث سبل مواجهة نفوذ صالح مسلم في شمال سورية، وإشعال الضوء الأخضر أمام المعارضة السورية، لعدم المشاركة في لقاء أستانة، أخيراً، هي تحذيرية، وإذا ما كانت ستجد آذاناً صاغية لدى الأميركيين، لكننا نعرف أن تركيا تدفع ثمن الثقة بحليفها الأميركي الذي نصحها بالتوجه نحو مدينة الباب، لمحاربة تنظيم داعش مقابل وعودٍ لم تتحقق بسحب الوحدات الكردية من غرب الفرات إلى شرقه. سيشعل التباعد التركي الأميركي حتماً نقاشات حادة في المحافل السياسية والأمنية والعسكرية الأميركية حيال مقامرة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وفريق عمله في اختيار صالح مسلم حليفاً، بدلاً من الأتراك، ومحاولة محاصرة تركيا بلعب الورقة الروسية ضدها، إذا ما شعرت أن أنقرة تقاوم وتناور لتعطيل مخططها في سورية. وقد عاد السيناتور الأميركي، جون ماكين، الذي التقى أخيراً القيادات التركية في أنقرة، في محاولةٍ لإيجاد صيغة تفاهم ترضي الأتراك والأميركيين، عاد بيد فارغة، ليوجز المشهد على النحو التالي "أصبحنا في صف واحد مع الروس ضد حليفنا التركي".
تزداد مهمة تركيا في سورية مشقة، وهي تحمل أكثر من كرتونة بيض بين يديها. نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية في منتصف إبريل/ نيسان المقبل المفصل التاريخي في حياة تركيا والأتراك، نحو حقبة تغيير سياسي واستراتيجي واسع في الداخل والخارج، لكننا لا نعرف الكثير عن ارتداداته، بعدُ بين احتمالي نعم ولا، لدى الحليف الأميركي.
*كاتب وباحث تركي.
وسوم: العدد 712