الصراع السوري من وجهة نظر إسرائيلية

منذ اندلاع الثورة السورية والتداعيات الناجمة عنها، وضمنها تحول سوريا إلى ميدان للتصارع الدولي والإقليمي، حرصت إسرائيل على إضفاء الغموض على موقفها، والظهور كمن ينأى بنفسه عن هذا الصراع، إلى درجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ألزم أعضاء حكومته، منذ البداية، بعدم الإدلاء بأي تصريحات تتعلق بهذا الموضوع.

بيد أن هذا الأمر لا يخفي حقيقة أن إسرائيل تعاملت مع هذه الثـورة، ومع ثورات “الربيع العربي” عموما وفق مستويين. الأول ينطوي على الحذر والقلق والتحريض والتخوف، وهو ناجم عن نظرة مفادها أن إسرائيل وجدت نفسها، مع اندلاع الثورات العربية عموما، في مواجهة وضع جديد لم تعتد عليه، بعد أن كانت خبرت منذ قيامها، ولأزيد من ستة عقود، العيش مع أنظمة استبدادية، استطاعت إضعاف دولها وتقييد مواطنيها، وتهميش مجتمعاتها وإخراجها من معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

في هذا المجال يمكن الحديث عن ستة محدّدات وجّهت الموقف الإسرائيلي من ثورات “الربيع العربي”، وضمنها الثورة السورية، مع الآمال التي وعدت بها وهي:

أولا، إن هذه الثورات يمكن أن تمهّد، في حال نجاحها، لكسر احتكار إسرائيل، لكونها الدولـة الديمقراطية الوحيدة، بعد أن استطاع الفلسطينيون في انتفاضاتهم كسر احتكارها لمكانة الضحيّة، ولا سيما أنها كانت تروّج دوما لاستحالة الديمقراطية في البلدان العربية، كما يمكن لها أيضا أن تكشفها عن حقيقتها، بوصفها دولة استعمارية وعنصرية وعدوانية ودينية، وبوصفها في منزلة ظاهرة رجعية في المنطقة، ما ينهي الأسطورة التي طالما روّجتها بوصفها “واحة” للحداثة والديمقراطية والعلمانية.

ثانيا، هذه الثورات كانت تعني حضور الشعب إلى مسرح التاريخ، بعد أن كانت المجتمعات العربية تعاني من التهميش بسبب الأنظمـة التسلطية، التي تبـدو متجبّرة في مواجهة شعوبها، وبالغة الهشاشة في مواجهة إسرائيل، التي كانت مستفيدة من الوضع السابق، الذي أتاح لها ابتزاز الأنظمة والاستفراد بها والتغطرس عليها.

ثالثا، هذه الثورات كان يمكن أن تُفتح على احتمالات تغير البيئة الأمنية التي اعتادت عليها إسرائيل، ما يضعها أمام واقع جديد عبر تهديدات أمنية أو عبر تحديات بالوسائل السلمية. ومعلوم أن إسرائيل، بقيامها واستمرارها وتطوّرها، شكّلت تحديا للعالم العربي في شكل النظام السياسي والإدارة الاقتصادية والتقدم العلمي والتكنولوجي، وفي النموذج بإقامتها مجتمعا من مهاجرين، وفقا لمبدأ المواطنة والنظام الديمقراطي. ويفيد ذلك بأنها لم تتفوق على العالم العربي بفضل قوتها العسكرية، أو باعتمادها على الولايات المتحدة، وأن الثورات العربية يمكن أن تُؤهل البلدان العربية لمواجهة تحديات إسرائيل على مختلف الأصعدة.

رابعا، وجدت إسرائيل في الثورات العربية فرصة للترويج لنظريتها بشأن أن أسباب الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة لا تنبع من وجودها واحتلالها، وإنما من الأنظمة التسلطية والفاسدة؛ وهذا يتواءم مع كلام تيار “المحافظون الجدد”، في الولايات المتحدة، واعتقادهم أن مشكلة العالم العربي تنبع من الفقر والاستبداد والفساد والإرهاب، وليس من الاحتلال.

خامسا، رأت إسرائيل أن تغيّر البيئة الإقليمية المحيطة بها ربما سيكون له أثره الكبير على مكانتها في المنطقة، وعلى تفاعلات النظام الإقليمي. وقد كان من المنتظر، في حال نجاح الثورات العربية، تعزيز مكانة النظام العربي، وتأكيد دوره، بوصفه فاعلا إزاء الفاعلين الإقليميين الآخرين (إيران وتركيا ولا سيما إسرائيل)، بعد أن كان في حال مريعة من الضعف والتشتت. بيد أن مسار الأوضاع لم يأت على قدر الآمال، كما شهدنا، بسبب التدخلات الخـارجية، وبسبب تغوّل الأنظمة، بحيث أن ما حصل جاء بمنزلة ربـح لإسـرائيل، أقلـه في المـدى المنظـور، خاصـة في الحال السـورية، وفي أوضـاع بلـدان المشرق العربي.

وهذا يأخذنا إلى المستوى الثاني في التعـاطي الإسرائيلي مع الحـالة التي خلقتهـا الثورة السورية، وهو ما تمثل في الآتي:

أولا، مراقبة ما يجري والحرص على عدم بروز تهديدات أمنية من جراء الصراع السوري، وهذا ما واجهته إسرائيل عبر غاراتها الجوية على بعض مخازن وشحنات السلاح إلى حزب الله، وفرض سيطرة على حدودها مع سوريا، ودعمها لتدمير السلاح الكيماوي في سوريا.

ثانيا، الحرص على عدم تزويد جماعات المعارضة العسكرية بأسلحة نوعية.

ثالثا، انتهاج مبدأ عدم التدخل رسميا، وتبني مقولة “دع العرب يقتلون بعضهم”، على أساس أن هذا الصراع سيؤدي إلى إضعاف كل الأطراف ما يفيد إسرائيل لعقود من الزمن.

رابعا، غلبة وجهة نظر مفادها الإبقاء على النظام، بواقع أن نظام الأسد (الأب والابن) حافظ على حدود هادئة معها طوال أربعة عقود، وأن النظام الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه، لذا؛ كان موقفها أن هذا النظام سيكون ضعيفا ومن دون حول ولا قوة إذا بقي.

خامسا، الترويج لفكرة أن الصراع في سوريا من طبيعة طائفية؛ وهو ما يخدم إسرائيل على المدى الطويل في تعميم خاصيتها، بعدّ نفسها دولة يهودية أي ذات طابع طائفي. ومعلوم أن إسرائيل تشتغل على هذا النحو بالتعامل مع الفلسطينيين من مواطنيها، ليس على أنهم عرب، وإنما بوصفهم مسلمين ومسيحيين ودروزا وبدوا إلخ. في هذا الإطار يمكن الحديث عن التصورات الإسرائيلية للمنطقة العربية، والتي كانت تصدرها مراكز الأبحاث الإسرائيلية، والتي تقوم على أن البلدان العربية لم تتأسس على أساس متجانس، وأنه ينبغي أن تقوم عدة دول في سوريا، واحدة للمسلمين السنة، وثانية للعلويين، وثالثة للدروز، ورابعة للأكراد، وهذا ينطبق على العراق أيضا.

سادسا، التنسيق مع روسيا، وهو ما تجلى بقيام نتنياهو بعدة زيارات إلى روسيا، وتأكيد الطرفين على متانة العلاقات التي تربطهما في المجالات المختلفة، وضمنها ما يتعلق بالوضع السـوري، وهو ما استتبعه تنسيق أمني بينهما، أطلق يد إسرائيل في ضرب كل ما تعتقد أنه يهدد أمنها.

سابعا، ترك الأمر للولايات المتحدة، إذ ثمة تقاطع كبير بين التصورات الإسرائيلية والتصورات الأميركية في ما يخص الشرق الأوسط، وتشابكات في مراكز صنع القرار والمصـالح السيـاسية والأمنيـة والاقتصـاديـة، أي أن المسألة لا تتعلق بفرض إسرائيل لوجهة نظرها على الولايات المتحدة، فهي ليست بحاجة إلى ذلك، وإنما الأمر يتعلق بالتشابك الكبير في السياسة والتصورات، وصناع القرار عند الطرفين، كما ذكرنا.

المهم أن إسرائيل، في كل هذه الأمور، تحاول أن تثبت موقفها في أربع مسائل هي:

أولا، التمسك بهضبة الجولان، وتأكيد عدم الانسحاب منها.

ثانيا، تأكيد قدرتها على الردع، وعلى ذراعها الطويلة، سواء إزاء سوريا أو إزاء “حزب الله”، وتأكيدها أن نقل شحنات أسلحة خط أحمر لن تسمح به.

ثالثا، فرض ذاتها لاعبا إقليميا في تقرير مستقبل سوريا، ولا سيما بما يتلاءم ورؤيتها إلى ما تعدّه أمنها القومي.

رابعا، إضعاف أو تقويض بنى المشرق العربي الدولتية والمجتمعية لضمان أمنها على المدى الاستراتيجي.

وسوم: العدد 713