صيادونا يقطعون ممراتنا الملاحية
صيادونا يقطعون ممراتنا الملاحية
كاظم فنجان الحمامي
في مثل هذه الأيام من كل عام, وعلى وجه التحديد في فترة صيد أسماك (الصبور), وتدفق هجرتها الموسمية من البحر إلى أعالي دلتا شط العرب, تنتشر شباك الصيد بالطول والعرض, من الضفة إلى الضفة, من دون أن تترك ثغرة صغيرة واحدة تنفذ منها السفن الكبيرة المحملة بالبضائع, ومن دون أن تتوقف ساعة واحدة, فتقطع ممراتنا الملاحية, وتحرم السفن من حرية الحركة, وتتسبب في افتعال سلسلة من المضايقات, التي قد تتحول إلى غارات يشنها الصيادون المتمردون على السفن المثقلة بحمولاتها.
نحن هنا لا نتحدث عن سفن الصيد الكبيرة, فالمقصود هنا الأبلام الخشبية الصغيرة, والعائمات المحلية المصنوعة من الصفيح, والتي يُطلق عليها محلياً اصطلاح (الجينكوات).
كانت الأبلام في السنوات السابقة ترمي شباكها في توقيتات تيار المد, لكنها اليوم تمارس الصيد في توقيتات التيارات الصاعدة والنازلة, في المد والجزر على حد سواء, وكان الصيادون فيما مضى يصيدون بشباك لا يزيد طولها على (50) متراً. لكنهم اليوم يستعملون شباكاً يصل طولها إلى (1000) متر. فيرمون أكثر من شبكة واحدة في عرض النهر. وكانوا يصيدون في ساعات النهار, من الضياء الأول إلى الضياء الأخير, فأصبحوا يصيدون في النهار والليل, حتى تحولت المسطحات لشط العرب إلى سيول من الأنوار المتلألئة بومضاتها العشوائية الملونة, التي ترميها عشرات الآلاف من الأبلام والجينكوات, على امتداد شط العرب من المعقل إلى رأس البيشة, فتحجب رؤية الفنارات الملاحية, وتمنع السفن من السير في المسالك الملاحية المخصصة لحركتها, وبالتالي تعطيل حركة السفن القادمة والمغادرة من وإلى موانئ شط العرب, ابتداء من ميناء المعقل إلى الفاو, مروراً بموانئ (أبو الفلوس), و(المحمرة), و(عبادان) و(خسروآباد), والمرافئ الأخرى المستحدثة بين الضفتين.
ولسنا مغالين إذا قلنا أن بعض الأبلام الخشبية دأبت على شن غاراتها اليومية على السفن المارة في المسالك الملاحية لشط العرب, وربما أصبحت قناني (البنزين) من الأسلحة المتاحة لمعظم الأبلام المارقة, ناهيك عن الهجوم بالحجارة, والقطع الأسمنتية المستديرة, وما إلى ذلك من معدات بدائية تخشاها السفن. الأمر الذي استدعى استنفار زوارق الدورية التابعة لآمرية خفر السواحل والمياه الداخلية, والتي استطاعت تأمين الطرق الملاحية وضمان سلامة السفن القادمة والمغادرة, لكنها لم تجد من يؤازرها في عملها هذا, ولم تلقى الدعم من المؤسسات القضائية والإدارية التابعة للأقضية والنواحي المشرفة على واجهات شط العرب. فما أن يُلقى القبض على المخالفين حتى يُطلق سراحهم في اليوم الثاني, فيعودون لممارسة انتهاكاتهم الملاحية المتكررة من دون أن يخشوا أحدا. الأمر الذي وضع آمرية خفر السواحل في مواقف لا تُحسد عليها, وحرمها من تطبيق أبسط الإجراءات الاحترازية المتعلقة بردع انتهاكات الأبلام والجينكوات.
يقولون: أهل مكة أدرى بشعابها, ونحن نقول: أن وحدات آمرية خفر السواحل أدرى من غيرها بما يجري من انتهاكات ومخالفات وتجاوزات في شط العرب, وهي أعلم من غيرها في هذا الشأن. في حين ماانفكت المؤسسات المؤيدة لتلك الانتهاكات, تبحث عن التبريرات والأعذار والحجج, لتوفر الغطاء التحريضي لأصحاب الأبلام المارقة, ما أدى إلى إرباك عمل الموانئ العراقية والإيرانية, وتعطيل الحركة الملاحية, وأدى أيضاً إلى منع وحدات خفر السواحل من القيام بواجباتها على الوجه الأكمل.
لابد أن نذكر هنا: أن زوارق الدوريات التابعة للشرطة النهرية, المسؤولة عن تأمين حماية المقطع الملاحي المحصور بين (أبو الخصيب) و(الخورة) تواجه المنغصات نفسها, ولا تجد من يمد لها يد العون في تطبيق السياقات الصحيحة, التي يُفترض العمل بموجبها في الممرات الملاحية المخصصة لمرور السفن التجارية الكبيرة.
من المفارقات السائدة في هذه المناطق المتشاطئة مع إيران, أن الزوارق الإيرانية لا تمارس الصيد في ساعات الليل, ولا تتواجد في شط العرب من ساعة الغروب وحتى فجر اليوم التالي, ولا تستعمل الشباك الكبيرة التي يزيد طولها على (100) متراً. وأن الدوريات الإيرانية تتلقى الدعم والإسناد من مؤسساتها الإدارية والقضائية, بما يؤمن حرية الملاحة للسفن المتوجهة إلى الموانئ الإيرانية. وبالتالي فأن الصيد الليلي يكون حصراً على الأبلام العراقية, على الرغم من إعلانات المنع التي أصدرتها آمرية خفر السواحل, وعلى الرغم من متابعة زوارق الدوريات, فشط العرب طوله يزيد على (135) كيلومتراً, ويتعذر بسط السيطرة الكاملة على مناطقه المعروفة بمنعطفاتها وانحناءاتها ومساحاتها الشاسعة, ثم أن التأييد المطلق الذي تمنحه بعض المؤسسات الحكومية العراقية للأبلام المتجاوزة يضيف الكثير من التعقيدات للأوضاع الملاحية المربكة في شط العرب, ويدفع أصحاب الأبلام لممارسة المزيد من الانتهاكات السافرة, الأمر الذي تمخض عن لجوء إيران إلى تقديم سلسلة من الرسائل الاحتجاجية إلى الخارجية العراقية, والتي تمحورت كلها حول الانتهاكات الملاحية التي تمارسها أبلام الصيد الصغيرة ضد السفن التجارية المتحركة خارج تحديدات المناطق المتشاطئة.
من المؤسف له أن بعض مؤسساتنا الحكومية لا تفهم القواعد الملاحية, بل لا تريد أن تفهم أبسط التشريعات الملاحية, ولا علم لها بما تحتاجه السفن الكبيرة من التسهيلات الملاحية حتى تمضي في طريقها بسلام وأمان, والأنكى من ذلك أن بعض الكيانات السياسية استثمرت قضية الصيادين لصالحها, فخلطت بين أوراق سفن الصيد وأوراق أبلام الصيد, من دون أن تعلم أن الجينكوات والأبلام الصغيرة غير مصرح لها بالعمل في عرض البحر, وغير مصرح لها في العمل الليلي في عرض الشط. وأن بعض مؤسساتنا لا تعلم أن آمرية خفر السواحل هي الجهة الرسمية المسؤولة عن حماية السواحل العراقية وضمان سلامة الملاحة في شط العرب, وأن أي تدخل في عمل هذه الآمرية سيؤدي إلى التعطيل والإرباك, وربما يؤدي إلى وقوع كوارث لا يمكن لتكهن بنتائجها.
الأمر الذي يتطلب قيام المحاكم العراقية والجهات الرسمية المعنية بالأمر بإنزال العقوبات الرادعة ضد زوارق الصيد التي ترتكب الانتهاكات المتكررة في المياه الداخلية والمياه الإقليمية, فالقواعد والتشريعات والضوابط الملاحية هي التي ينبغي أن تسري على الكل, وهي التي ينبغي أن تُطبق بحزم وحسم, من دون مجاملات فارغة, وإلا فأن الأمور قد تتدهور وتتردى, حتى تصل إلى المستوى الذي يصل فيه الانفلات إلى أوج خطورته, ولات حين مندم.