اقتطاع الرواتب اقتطاع للوطن
إنَّ رباطة الجأش العجيبة التي تحلت بها غزة في الماضي والحاضر كانت آية من آيات البسالة التي استرعت أنظار العالم، واستحقت إعجابه، فمنذ سنين النكبة شكلت غزة قاعدة النضال الفلسطيني، وحافظت على الهوية الوطنية من خلال جواز سفر حكومة عموم فلسطين، وحملت غزة قصب السبق في المقاومة وكفاح الطغيان في شتى مظاهره، وتحملت الألم والبلوى، ولديها إرادة فولاذية لا تستسلم مهما تكررت العثرات، وتوالت المصاعب، ولا تعرف اليأس ولا القنوط، فتاريخ غزة كتب من الدماء، وهذا التاريخ يروي حكاية معركة بعد الأخرى من حصار وقتل وهدم ومقابر جماعية، وعقاب جماعي، ورغم هذا العذاب، فأهلها يحاربون في قوت أولادهم من ذوي القربى.
واستشعاراً بعظم المسؤولية الوطنية؛ مسؤولية الضمير والوجدان ومسؤولية المستقبل، حري بي أن أقول إلى السيد الرئيس محمود عباس (أبو مازن) في هذا الوقت العصيب الذي يمر به قطاع غزة من ظروف صعبة وأوضاع بائسة وحصار جائر: إنني لستُ بحاجة مَن يذكرك بنضالات غزة منذ النكبة، أليست غزة هي التي أسقطت مشاريع التوطين في الماضي؟ وهي القادرة على اسقاطها في الحاضر، وأليست غزة مفجرة الانتفاضات المتتالية في وجه الاحتلال البغيض؟ وأليست غزة هي تسقط كل مشاريع التجزئة والانقسام؟ وأليست غزة هي حاضنة المشروع الوطني الفلسطيني؟
سيادة الرئيس: لماذا تعاقبون شعبكم في غزة بمثل هذه القرارات المجحفة، وهم الذين تمسكوا بالشرعية وبالثوابت الوطنية، وألستم يا سيادة الرئيس مَن أصدر أوامره لموظفي غزة بعدم التعامل مع حكومة الأمر الواقع في غزة، فأنتم تتحملون تبعات هذا القرار وحدكم، باعتباركم رأس السلطة، ورئيس الدولة.
كان الشعب الفلسطيني في قطاع غزة يأمل من رئيسه أن يتحمل مسؤوليته الأصيلة والتاريخية والأدبية، باعتباره رأس السلطة الوطنية بتصحيح هذا الخطأ الجسيم الذي أدخل الحزن إلى كل بيت في القطاع المنكوب.
السيد الرئيس: إن مجزرة الرواتب تعمق الانقسام وتقود للانفصال، ولقد قالوا: (مَن لم يقرأ العواقب، فما الدهر له بصاحب)، و(الخلاف عند النوائب يوصل للخراب)، ولله در مَن قال: (أبعدوني عمن يقول: أنا كالشمعة أذيب نفسي ليستضيء الناس بنوري، وقربوني ممن يحسُّ أنه يستضيء دائماً بأنوار الناس).
السيد الرئيس: كان حري بكم، وأنتم تفتتحون مقر تلفزيون فلسطين في رام الله بحلته الجديدة التي نفخر بها جميعاً.. كلنا عتب على تلفزيوننا، حيث كان أداؤه باهتاً أمام قضية الرواتب، ولم ينقل المعاناة بصدق وأمانة ومهنية، ليتساوق مع فكرة الانفصال، وكأن غزة صومال فلسطين.
والسؤال الذي يطرح نفسه أيضاً بإلحاح: أين كان وزراء غزة في حكومة الوفاق الوطني أثناء تمرير قرار خصم ما يزيد عن ثلث رواتب موظفي قطاع غزة في مجلس الوزراء؟ وما هو موقفهم الوطني تجاه هذه المجزرة، وهذا القرار العنصري؟ يبقى هذا السؤال قائماً يبحث عن إجابة شافية!.
وكان الأجدر بوزراء غزة باعتبارهم مَن يمثلون أبناء غزة في هذه الحكومة، أن يخرجوا عن صمتهم، وأن يسجلوا موقفاً مشرفاً تجاه أبناء شعبهم الصابر في غزة، والذي ينتظر منكم كل خير في هذه المرحلة الدقيقة، حتى أصبح الأمر مثيراً للقلق والحرج، واصطدم الناس بالواقع القاسي الذي لا يرحم، والحقيقة المرة التي لا تمارى!!
وأمام هذه الحالة السيئة، يعجم الأمر وتبهم الآراء، ولا تعرف الأمة طريقها البين نحو الاستقلال والإصلاح والنهوض بالشعب إلى مدارج الرقي، وتضيع البوصلة بين مَن يعمل على رفاهية شعبه، وذلك الذي يفاقم مأساته، حيث يقول مونتسيكو: (إذا أردت أن تعرف أخلاق رجل من الرجال، فضع في يده سلطة أو مالاً، ثم أنظر كيف يتصرف)، ويقول توفيق الحكيم: (المصلحة الشخصية هي الصخرة التي تتحطم عليها أقوى المبادئ). وإن كان علينا أن نذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولا نحطم بأيدينا ما فعله السابقون، وفي تاريخ كل وطن محاسن ومساوئ، وإنَّ الأحداث التي تجري في كل أقطار الأرض، فيها الحسن وفيها القبيح، إلا في حالتنا الفلسطينية المعاصرة؛ فأمام مجزرة رواتب أبناء غزة التي اكتسحتهم دون إخوانهم في الضفة الغربية، فإن كل قادتنا مسئولون عن هذه المجزرة بامتياز، وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس، ويضرب الرئيس الأندونيسي "أحمد سوكارنو" المثل في قيادة ورئاسة الشعوب، بكل معنى الكلمة والدلالة عندما يقول: (إذا كنت قد نبذتُ كلّ أسباب الرفاهية، وإذا كنتُ قد أبعدتُ عني جميع أقاربي وأصدقائي، وإذا كنتُ أعيشُ عيشة الفاقة، فذاك لأنني أعتقد أن رئاسة الشعوب ليست تجارة ومنصباً، بل خدمة وتضحية)، إن مؤهلات الحاكم تتلخص في كلمة واحدة هي: (الأمانة)، وإذا ماتت الأمانة ماتت نهضة بلادنا، فما من شخص نال شرفاً على ما أخذ، فالشرف هو دائماً جائزة لمن يعطي، والجدير بالحكم هو مَن يحب الناس كما يحب نفسه.
ولكن، لا بدَّ أن نقنع أنفسنا في النهاية بأن ثمة شيئاً لا نفهمه تماماً، وإذا لم أكن مخطئاً، فإن القيادة الفلسطينية ووزراء غزة في حكومة الوفاق يعرفون أشياء لا نعرفها، ولا يمكننا أن نعرفها؛ لأنهم لم يمتلكوا الشجاعة بعد لأن يحدثونا عن تعثرات القيادة وخطورتها على قضية فلسطين بمجملها، (فغزة) ما زالت تئن وتعيش أياماً محمومة مشحونة تحت وطأة كل شيء، الجفاء والانقسام، القلاقل والأزمات المفتعلة، وقتامة الجو السياسي وهبوط مستوى التنسيق،
أليس من حقنا نحن الفلسطينيين وجود رجل رشيد، يطوي صفحة مظلمة من تاريخ شعبنا؟ وأن يجعل هذا الشعب المتعب شعباً جديراً بالحياة، جديراً بالتقدم، وأن يسير نحو هذا الهدف بدون مواربة وبدون مناكفات، وأن يصلح ما أفسده الدهر، ويسجل في سجل أعماله الوطنية الظفر بالمغلوبين على أمرهم من أبناء غزة، وتحطيم الأغلال التي تكبلهم بقيود ثقيلة، وأن يسعى إلى تحقيق وحدة الصف الفلسطيني، وأن يزهد في المال والمنصب والجاه، حتى لا يجد حاسده مغمزاً في نزاهته ولا في وطنيته ولا في جهده المتواصل في خدمة وطنه. ويكون مثار اعجاب الجميع واطرائهم، وموضع احترامهم وتقديرهم؟
وسوم: العدد 715