انتفاضة الأسرى عنوان الوحدة وسبيل الوفاق 9 + 10
انتفاضة الأسرى عنوان الوحدة وسبيل الوفاق
الحرية والكرامة "9"
· اليوم الرابع عشر للإضراب ....
إيماناً بعدالة قضية الأسرى والمعتقلين، وإحساساً بمعاناتهم، وأملاً بحريتهم والإفراج عنهم، نجد أن قطاعات الشعب الفلسطيني المختلفة في الوطن المحتل والشتات، وجموعه المنظمة والعامة، وفصائله المتنافرة والمتنافسة، وقواه المنقسمة والمتخاصمة، وكتائبه العسكرية وتنظيماته السياسية، ومؤسساته الإعلامية وهيئاته الشعبية، تلتقي كلها اليوم على هذه القضية وتتحد، وتتناسى مشاكلها وتقفز على اختلافاتها وتتفق، وتنسق فيما بينها وتتعاون، وتتقاسم الأدوار وتتبادل، وتنوب عن بعضها وتتكامل، ذلك أن أسرانا البواسل في سجون العدو هم نقطة انطلاق وعلامة اتفاق ومحل وفاق، عليهم نلتقي وتحت ظلالهم نتحد، أياً كانت اتجاهاتنا السياسية وانتماءاتنا الحزبية.
وفي الوقت الذي يقف فيه أهلنا في النقب والجليل والمثلث وعموم فلسطين التاريخية، في حركةٍ تضامنيةٍ رائعة، والتفافٍ شعبيٍ عزَّ في غير هذه القضية نظيره، تلتقي فيها المساجد مع الكنائس، ويتداخل فيها الأذان مع أجراس الكنائس، بصوتٍ واحدٍ حرٍ واعدٍ صادقٍ، يؤيد الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية ويقف معهم وإلى جانبهم، وينادي بحقوقهم، ويستصرخ العالم الحر لينتصر لهم ويساندهم، ويتحدى سلطات الاحتلال التي تسجنهم وتجلدهم، وتعذبهم وتعاقبهم، يهب أهلنا في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، هبة رجلٍ واحدٍ ثائرٍ غاضبٍ ناقمٍ، لا يلوون على شئٍ غير حرية أسراهم وحقوق أبنائهم، فهم اليوم في سجون العدو يعذبون ويضطهدون، وهم الذين انبروا دفاعاً عن شعبهم، وثأراً لإخوانهم، وانتقاماً من عدوهم، نواباً عنهم ورواداً قبلهم، فاستحقوا بتضحياتهم من الشعب الوفاء، ومن الأمة التقدير والعرفان.
أما الأسرى والمعتقلون أنفسهم فقد كانوا رغم سجنهم واعتقالهم، سباقين إلى الوحدة، ورواداً في الاتفاق والوفاق، ورسموا لشعبهم المنقسم على ذاته والمتصارع مع نفسه، أروع الأمثلة في التلاحم والتنسيق والانسجام، ونسقوا فيما بينهم إضرابهم المفتوح عن الطعام فخرج قوياً متماسكاً، صاخباً مدوياً، منسجماً ومنسقاً، فلا تناقض بينهم ولا اختلاف، ولا أصوات معارضة ولا أخرى نشاز، بل شكلوا فريقاً واحداً وجسماً موحداً، فأعيوا العدو عن اختراقهم، وأعجزوه عن التأثير على بعضهم أو الوشاية والوقيعة بينهم.
وكأن الأسرى خلف القضبان، المحاصرين خلف الأسلاك الشائكة أو بين الجدران العالية، وداخل الزنانين الضيقة ذات الأبواب السميكة الصدئة، أعمق وعياً وأوسع فهماً، وأدرى بعدوهم وأعلم بمواجهته، فأرادوا أن يلقنوا شعبهم وقيادته درساً في أصول المواجهة وخوض المعارك، وفي إدارة الحروب وتحدي العدو، بأنه لا بد من الوحدة والاتفاق، والتنسيق والتكامل، فهذا هو سبيل النصر وطريق الفوز، وإلا فإن الاختلاف سيضعفنا، والانقسام سيشرذمنا، والتناقض سيهزمنا.
الأسرى الذين يخوضون الإضراب المفتوح عن الطعام وقد تجاوز عددهم في يومهم الرابع عشر الألف وستمائة أسيرٍ، ليسوا أبناء تنظيمٍ واحدٍ، أو ينتمون إلى حزبٍ أو فصيلٍ دون آخر، وإن كان يتقدمهم الأسيران مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وأحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلا أنهم جميعاً يدٌ واحدةٌ وصفٌ واحدٌ، وإن كانوا لفيفاً من أبناء حركة فتح وهم الأكثرية، وإلى جانبهم أسرى حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية وغيرهم، في وشاحٍ وطنيٍ رائعٍ، وقلادةٍ منضودةٍ بأزهى الألوان، ترصع الحالة النضالية للحركة الوطنية الأسيرة وتزينها بثوبٍ وطنيٍ قشيبٍ جميلٍ، تغيظ العدو وتؤلمه.
وهم ليسوا نزلاء سجنٍ واحدٍ فقط، بل إنهم يمثلون السجون والمعتقلات الإسرائيلية كلها، بعيدها وقريبها، القاصي في النقب، والمعزول في نفحة، والقريب في عوفر، وهذا ما يغيظ السجان ويغضب سلطات الاحتلال، إذ أن شرارة الإضراب انتشرت وامتدت، وانتقلت من سجنٍ إلى آخر، حتى أصبح من الصعب عليهم تطويق الإضراب وحصاره، أو التحكم فيه وتسييره، وأسقط في أيديهم محاولاتهم عزل الأسرى المضربين وإقصاءهم، فعما قريب سيكون المضربون هم الأكثرية، وسيلتحق بهم كل الأسرى والمعتقلين، وسيسبقهم إليه المرضى والنساء، والأطفال وذوي الحالات الخاصة، فهذه معركةٌ لا يتخلى عنها أحد، ولا يغيب عنها قادر، ولا يتأخر عن خوضها مؤمنٌ بها ومعتقدٌ بأنها صانعة الكرامة وبوابة الحرية.
لا شئ يوحد الشعب الفلسطيني كالأسرى والمسرى، فعليهما يلتقي الشعب وتتظافر جهوده، ويتعاون أبناؤه، وتتحد فصائله، وتتكاثف جهوده، وتتركز أعماله، وفي سبيلهما يضحي الشعب وتهون دونهما الصعاب، وتتضاءل أمامهما التحديات، ويتسابق لاستنقاذهما الرجال والنساء، والشيوخ والصبيان، وينبري للدفاع عنهما الأب والأم، والأخ والأخت، والابن والابنة، والجار والقريب والنسيب، والغريب والنصير، والكل يهب إذا رفع شعارهما، ونودي من أجلهما، إذا أحدق الخطر بهما، أو حاول العدو المساس بهما والتآمر عليهما، ولا يبالي الفلسطينيون إذا سقط في معركة الدفاع عنهما شهداءٌ وجرحى، أو معتقلون وبالرصاص الحي مصابون، فهذه معركةٌ يرونها قدسية، طاهرة نقية، لا مراءاة فيها ولا مداهنة، عنوانها واضحٌ، وهدفها محددٌ، إنها لنصرة القدس وللدفاع عن جنود فلسطين والأقصى.
المعتقلون الفلسطينيون والعرب في السجون الإسرائيلية، والقدس ومسجدها الأقصى، هما عنوانان عظيمان وواجهتان شريفتان، ورايتان ناصعتان عاليتان تخفقان، إنهما أيقونتا الشعب الفلسطيني وقبلة الأمة العربية والإسلامية، بطهرهما يقسمون، وبقدسيتهما يفتخرون، وبنقائهما يعتزون، ومن أجلهما يضحون بكل غالٍ ونفيسٍ، وانتصاراً لهما يتظاهرون ويعتصمون، ويجتمعون ويحتفلون، ويهتفون ويغضبون، فلا نستغرب ما نراه اليوم من وحدة الأمة والتفافها حولهما، رغم الظلام البهيم، والفتن السود، والحروب العدمية المدمرة، إلا أن ما أحاق بالأمة العربية لم يشغل شعوبها وأبناءها عن نصرة الأسرى الفلسطينيين، وتخصيص أوقاتاً من أجلهم، يدافعون عنهم، ويبرزون قضيتهم، ويفضحون العدو الذي يستفرد بهما ويعتدي عليهما.
************************
إضراب الأسرى والمعتقلين مشاهدٌ وصور
الحرية والكرامة "10"
اليوم الخامس عشر للإضراب ....
صورة إضراب الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين عن الطعام في مختلف السجون والمعتقلات الإسرائيلية ليست صورةً جامدة لا تتغير، وليست على حالٍ واحدةٍ لا تتبدل، وليست كئيبةً كما يُتَصورُ، ولا مملةً كما يتعمد العدو وصفها، والأسرى ليسوا حزنى ولا باكين، ولا هم منعزلين في زوايا غرفهم، ولا منفصلين عن الواقع حولهم، بل إن صورتهم تتميز بالحيوية الدائمة والحركة الدائبة والتطور المستمر، وتشهد في كل ساعةٍ أحداثاً جديدةً، تغير المشهد وتبدل الصورة، تعزز في قلوبهم الأمل وتقرب إليهم النصر.
المعتقلون خلايا نحلٍ نشطٍ يعملون في كل السجون والمعتقلات، يتبادلون الرسائل، ويتصلون بقياداتهم في الخارج، ينسقون معهم المواقف، ويخططون للمستقبل، ويصيغون البيانات المشتركة، ويعلنون السياسات العامة، ويوضحون مواقفهم مما يجري معهم وحولهم، وكأنهم في مركز عملياتٍ أو قيادة أركانٍ، إذ الكل منهمكٌ في عمله، ومشغولٌ في مهمته، يعملون بكدٍ ونشاطٍ وحيويةٍ وأملٍ، دونما استسلامٍ للأسوار المحيطة بهم، ولا للأبواب المغلقة عليهم، ولا للسجانين المتربصين بهم، ولا للعيون المفتوحة عليهم، ولا لوسائل التجسس المنصوبة حولهم، التي تصورهم وتسجل أصواتهم وترصد كل حركاتهم.
يخطئ من يظن أن بقية الأسرى والمعتقلين غير المنخرطين في الإضراب، يقفون متفرجين ولا يشاركون إخوانهم في معركتهم، ولا يقفون إلى جانبهم في مواجهتهم، بل إنهم على العكس من ذلك مسؤوليةً وانشغالاً، إذ يحملون المهام الصعاب، ويقومون بالتكاليف المجهدة، ويبادرون للقيام بكل صغيرةٍ وكبيرةٍ، كونهم أقدر على التحمل، وأصبر على الجهد، فتراهم ينوبون عن إخوانهم في كل ما يتعلق بمهام المعتقلين اليومية في غرفهم وزنازينهم، ويبادرون لإجراء الاتصالات وجمع المعلومات وتدوين الأحداث وصياغة المواقف، في محاولةٍ منهم للتخفيف عن الأسرى المضربين، وحمل بعض الأعباء الدورية نيابة عنهم، فضلاً عن أنهم يحرصون على عدم تناول الطعام أمامهم، ولو كانوا مرضى وفي حالٍ صحيةٍ تلزمهم بتناول الطعام.
هذه الصورة المفعمة بالحيوية والنشاط، والمليئة بالأمل واليقين، لا تقتصر مشاهدها المتجددة داخل أسوار السجون، وفي عتمة الزنازين وجوف الإكسات العميقة حيث العزل الإنفرادي والإقصاء المتعمد، رغم أنهم صناع الحدث، وأبطال الساحة ورجال الموقف، لكنها تتجاوز السجون إلى خارجها، وتخترق أسوارها إلى خارجه الذي يغلي كالمرجل ويمور كما البحار، وتجتاز حدودها الضيقة إلى العالم الرحب الفسيح، حيث تتردد أصداء إضرابهم في كل أنحاء الدنيا، ويسمع بهم من أراد العدو أن يبقيهم بعيداً عن جرائمه، وعمياً عن سوء أفعاله، فقد أجبر الأسرى بصمودهم وثباتهم وإصرارهم العالم كله على التضامن معهم أو الحديث عنهم، إذ نجحوا في فرض قضيتهم على كل نشرات الأخبار، التي باتت تفرد مساحاتٍ كبيرة من برامجها لتغطية تطورات قضيتهم، وتسليط الضوء على معاناتهم.
الصور والمشاهد الخارجية التي تواكب إضراب الأسرى والمعتقلين، ليست كلها واحدة أو متشابهة، بل هي مختلفةٌ ومتباينة، فهي في فلسطين وعموم الدول العربية والإسلامية مختلفة عن الصورة التي ترسمها حكومات دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فهي صورٌ بيضاء ناصعةٌ، وأخرى سوداء قاتمة، مؤيدة ومناصرة لهم، أو معارضة ومناوئة لتحركاتهم، الأولى يبديها الشعب الفلسطيني كله وترسمها الأمة العربية والإسلامية، والأخرى يحاول العدو فرضها وتضليل العالم بها، ويضغط على الدول والحكومات لتصديقها والقبول بها، ولكن الصورة الأولى أنضى وأنصع، وأبلغ وأصدق، بينما الثانية معتمةٌ مظلمةٌ فاسدةٌ مضللةٌ، يبدو فيها الظلم ويغيب عنها العدل، وتظهر عليها سمات الحقد والكراهية، والعنصرية والعدوانية.
فقد أعلن المئات من مناصري الشعب الفلسطيني ومن المناضلين الأمميين تضامنهم مع الأسرى والمعتقلين، وأيدوهم في إضرابهم المفتوح عن الطعام، وشرع الكثير منهم في الإضراب عن الطعام مثلهم، أو شرب الماء والملح تضامناً معهم، ومنهم المناضل اللبناني الشهير جورج عبد الله، المعتقل منذ قرابة العشرين عاماً في السجون الفرنسية، الذي أعلن إضراباً عن الطعام لمدة ثلاثة أيامٍ تضامناً مع الأسرى الفلسطينيين وذويهم، وغيره كثير من قدامى الأسرى والمحررين في الخارج، الذين انظم إليهم مئات الفنانين والسياسيين والإعلاميين والمثقفين، وعشرات النشطاء الدوليين في لجان كسر الحصار وغيرهم من المشاهير.
أما الشيخ رائد صلاح فقد ارتحل بكليته وحنجرته، ومن قبل بقلبه وعقله إلى بوابات السجون الإسرائيلية، التي كان فيها قبل أيامٍ قليلةٍ معتقلاً ومعزولاً، فوقف على بوابة سجن مجدو متضامناً مع إخوانه الأسرى خلف القضبان، ومخاطباً إياهم بشجاعةٍ ورباطة جأشٍ وقوة جنانٍ، أن الفجر آتٍ، وأن الصبح عما قريب سينبلج، وستعودون أحراراً رغم أنف العدو إلى بيوتكم حيث أسركم وأطفالكم.
في حين اعتصم تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات، وأعضاء مجالس الشعب والنواب، والصحفيون ورجال الإعلام، والنقابات العمالية ومؤسسات المجتمع المدني، الذين خصصوا جميعاً جزءاً كبيراً من أوقاتهم لاستعراض قضايا الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية وبيان معاناتهم وعرض مشاكلهم، وكان إلى جانبهم أبناء الأسرى وزوجاتهم وأمهاتهم، الذين شاركوهم الإضراب، واعتصموا تضامناً معهم وأملاً في الإفراج عنهم في خيامٍ كثيرٍ نصبت، ومقارٍ عديدةٍ فتحت لترفع صوتهم، وتسلط الضوء على قضيتهم.
مع بداية اليوم الخامس عشر تجاوز عدد الأسرى المشاركين في الإضراب عتبة ألـــ 1600 أسيراً، وما زالت سفينة الإضراب تمخر عباب التحديات والصعاب، تتحدى العدو وتقف في مواجهته، ولا تبالي بتهديده وعنجهيته، بل يزداد صبيحة كل يومٍ عددهم، وتتضاعف قوتهم، ويشتد تأثيرهم بإصرارٍ على تلبية طلباتهم، وضمان حقوقهم، وعدم القبول بأي سحبٍ أو تراجعٍ عما تم تحصيله سابقاً من الحقوق والامتيازات، فهذه المعركة الأليمة التي يخوضونها بأمعائهم، ويشقون طريقها بجوعهم، ليس لها من خاتمةٍ إلا النصر أو الشهادة.
وسوم: العدد 718