ضاقت بإسرائيل السبل فرفعت «بطاقة الهولوكوست»
«صلف وعنجهية وعربدة».. هذه هي الكلمات التي يمكن أن يوصف بها تصرف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع وزير الخارجية الألماني الزائر لإسرائيل زيغمار غابرييل قبل نحو أسبوعين. لكن الوزير الألماني كان له بالمرصاد ورد له الصاع صاعين.
ونأمل أن ينطبق المثل القائل «الغراب يزعق على خراب عشه» على إسرائيل في علاقاتها مع ألمانيا التي تعتبر من أقوى العلاقات وأمتنها بين دولتين، وسبب هذه العلاقة طبعاً لا يحتاج لتفسير، أكثر من العقدة النازية التي عاشتها أجيال بعد أجيال في ألمانيا منذ اندثار حكم أدوف هتلر وانتهاء حزبه معه في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
«وزعيق الغراب» بدأ خلال المشكلة التي أثارها نتنياهو وهو الذي يشغل حقيبة وزارة الخارجية أيضاً، عندما حاول فرض إرادته على زائره، غابرييل وهو أيضاً زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي الشريك في الإئتلاف الحكومي، معتقداً خطأً كما ثبت لاحقاً، أنه بتهديداته تلك يردع الوزير الألماني عن لقاء ممثلي منظمتين إسرائيليتين مناهضتين للاحتلال، يتهمهما نتنياهو، بالسعي لنزع الشرعية عن إسرائيل وجيشها.. وهما «بتسيلم» و»يكسرون الصمت.»
وفشل نتنياهو في ان «يضبع غابرييل» ويدفعه نحو إلغاء اللقاء. وجرت رياح غابرييل بغير ما تشتهي سفن نتنياهو. ولم يكن في حسبان نتنياهو ان يتمرد غابرييل نائب المستشارة الالمانية انغيلا ميركل، ويصر على اللقاء الذي كما قال لا يرى سبباً مقنعاً لإلغائه. وأخذ هذا التحدي نتنياهو، على حين غرة ووضعه في «خانة اليك» كما يقال، ولم يجد مخرجاً للمأزق الذي حشر نفسه فيه، سوى تنفيذ تهديده بإلغاء اللقاء المقرر بينهما… ولم يكترث غابرييل على ما يبدو، وربما قال بينه وبين نفسه «بركة يا جامع».
ولكنه لم يبيت غابرييل ثأره ورده على هذه الإهانة ليس لشخصه بل للبلد الذي يمثله.. ولم يطل الانتظار لتأتيه الفرصة لرد الصاع صاعين لنتنياهو الذي اعتقد أنه بالامكان لملمة الأزمة حسب قوله، بالاتصال بغابرييل لشرح موقفه وتنقية الأجواء.. ولكن ذلك لم يكن ليخفف من غضب الوزير الالماني الذي رفض الرد على الاتصال وهناك من قال إنه وفي مناسبة ثانية أغلق سماعة الهاتف في وجه نتنياهو.
وبالأمس وتأكيداً على رفض الابتزاز اعتبر غابرييل المستوطنات الإسرائيلية مخالفة للقانون الدولي وتشكل عقبة أمام السلام. وقال «من وجهة نظرنا تعتبر المستوطنات خرقاً لقواعد القانون الدولي وعقبة أمام تحقيق السلام كما انها تشكل موضوعاً خلافياً حتى داخل إسرائيل نفسها».
حتى تلك اللحظة لم يكن غابرييل سوى صديق صدوق لإسرائيل مثله في ذلك مثل رئيسته ميركل وحزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي، التي وقفت الى جانب نائبها وشريكها في الائتلاف الحاكم والدفاع عن حقه في لقاء منظمات غير حكومية. وقالت رداً على سؤال إن كان وزير خارحيتها يحظى بدعمها الكامل في هذه القضية، «كنا على اتصال دائم خلال زيارته لإسرائيل».
طبعاً لم تنس ميركل أن تردد «اللازمة» التي يرددها دوماً قادة الدول الغربية بعد كل خلاف مع إسرائيل، وهو أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، ولا يغير شيئاً في دعم ألمانيا لإسرائيل.
والشيء بالشيء يذكر فان ميركل نفسها ألغت زيارة كانت مقررة لإسرائيل في أيار/مايو الحالي، تعبيراً عن رفضها للسياسات والمخططات الاستيطانية التي اعلنت عنها حكومة نتنياهو في الضفة والقدس في الاشهر الاخيرة لا سيما عقب فوز ترامب بالرئاسة.
واتهمت وسائل إعلام إسرائيلية وسائل الإعلام الألماني بالمواقف المزدوجة بانتقاد إلغاء نتنياهو للقاء غابرييل بينما لم تنتقد إلغاء ميركل لزيارتها.
فحتى وزارة الخارجية الامريكية وقفت الى جانب ألمانيا في هذه القضية ولكن انطلاقاً من «باب الحرص على اسرائيل وديمقراطيتها»، اذ قال المتحدث باسمها مارك تونر انطلاقاً من ان المجموعات اليسارية «جزء مهم من الديمقراطية الفاعلة وللمجتمع المدني» في إسرائيل.
وبعد ان فقد نتنياهو الحيلة والوسيلة وضاقت به السبل، لجأ الى السلاح النووي الاعلامي وهو قنبلة «الهولوكوست». فراحت وسائل اعلامه «الحرة» تنبش في تاريخ الوزير الالماني وحزبه. وشنت حملة شعواء عليهما فاتهمت الوزير بالاستخفاف بالمحرقة النازية «الهولوكوست» لأنه تجرأ في مقال رأي نشره في صحيفة «فرانكفورتر راندشاو» على المساواة بين ضحايا اليهود وحزبه بقوله «إن الديمقراطيين مثل اليهود كانوا اول ضحايا الهولوكوست..الديمقراطيون الاجتماعيون كانوا ضحايا الاضطهاد السياسي، اما الآخرون فكانوا ضحايا الجنون العرقي».
واكتشفت وسائل الاعلام الاسرائيلية «الحرة» الآن علاقة حزب غابرييل بحركة فتح والجمهورية الاسلامية في ايران، وتقول ان اختلاق غابرييل لأزمة مع نتنياهو لم يكن مفاجئاً للمراقبين والمتابعين، فهو معروف بعلاقاته وحزبه بفتح وإيران.. ويحاول الإسرائيليون بذلك ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد وهي حزب غابرييل وفتح وإيران..
ولا يرى الاعلام الاسرائيلي «الحر» غرابة في لغة غابرييل العدوانية في وصف الصهيونية السياسية، ولذا لا تستهجن اختلاق معركة مع نتنياهو.
وتذكرت اسرائيل الان ما قاله غابرييل في وصف الوجود الاستيطاني في مدينة الخليل «نظام فصل عنصري (ابرتهايد)». واكتشفت ان الرئيس محمود عباس بالنسبة لغابرييل «صديق وان حزبه اعلن نفسه شريكاً استراتيجياً مع حركة فتح.
وتذكرت أيضاً أن حزب الديمقراطيين الاجتماعيين استضاف في عام 2012 معرضاً نظمته حركة «يكسرون الصمت» في قاعة ويلي براندت في مقر الحزب في برلين.
ووجدت ان غابرييل الذي يفضل مصالح بلاده التجارية مع ايران على المسؤولية التاريخية ازاء اليهود، هرع الى ايران عندما كان وزيراً للاقتصاد، مع وفد كبير من رجال الاعمال بعد أيام فقط من توقيع الاتفاق النووي في عام 2015.. ولكنه نسي أن يلتقي مع جمعيات معارضة للنظام الإيراني وهو في طهران. واعتبرت أن قرب الديمقراطيين الاجتماعيين من فتح وطهران هو مصدر التنافر بين إسرائيل وألمانيا.
واتهم الاعلام الاسرائيلي ألمانيا بالوقوف وراء التصويت الأوروبي لصالح قرار في منظمة اليونيسكو يعتبر القدس مدينة محتلة من قبل اسرائيل، وذلك من خلال التوصل لصيغة مقبولة مع الاطراف العربية.. وصوت اليونيسكو لصالح القرار يوم الثلاثاء الماضي باغلبية 22 مقابل 10 ضد.
وفي السياق استدعت وزارة الخارجية الاسرائيلية يوم الاربعاء الماضي السفير السويدي في اسرائيل كارل ماغنوس للتعبير عن احتجاجها على تصويت السويد ودعمها لقرار منظمة اليونيسكو. ورفضت إسرائيل تجديد تصريح العمل لصحافي هولندي، بحجة «التغطية المنحازة والمعادية»، بعد قيامه بانتقاد الوضع في الخليل.
فليتصور القارئ ان كل هذه الازمة حصلت وغابرييل في زيارة لاسرائيل للمشاركة في احياء ذكرى الهولوكوست، ولم يشفع له ذلك. فقط لو خضع هذا الغابرييل لتهديدات نتنياهو وابتزازته وألغى لقاءه مع «بتسيلم» و»يكسرون الصمت» لأعفى نفسه من سيل «الاكتشافات» والاتهامات ولبقي في اعين الاسرائيليين بطل الابطال وصديقاً صدوقاً لـ»الشعب اليهودي».
وتذكرني ردود الافعال والتصرفات الإسرائيلية الحالية، بردود الافعال الفلسطينية والعربية في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي مع فارق فاعليتها، حينما كنا ننأى بأنفسنا عن أي طرف يتواصل مع إسرائيل، فتركنا لهم الساحة يسرحون فيها ويمرحون، إلى أن نفّرنا الناس من حولنا ووجدنا أنفسنا في عزلة وصوتنا غير مسموع في دول العالم. فهل تنزلق اسرائيل في هذا المنزلق. وهل تأتي عزلة اسرائيل ونهايتها، من غرور وعنجهية قادتها الذين أعمتهم القناعة بأن اسرائيل هي محور الكون الذي تدور في فلكه جميع دول العالم صغيرها وكبيرها؟ وهل ينفض من حولهم الاصدقاء او المكرهون على هذه الصداقة؟
الشيء المؤكد ان اللحظة التي ستقول فيها الشعوب الغربية كفى للابتزازات الاسرائيلية وتنقلب عليها، باتت قريبة، وكما كان ابو عمار رحمه الله يقول: يرونها بعيدة وأراها قريبة.. وأعتقد اننا لن ننتظر طويلاً وإن غداً لناظره قريب.. هذا بالطبع لا يعني ولا بأي شكل من الاشكال أن نجلس مكتوفي الايدي منتظرين الفرج.. فالفرج لا يأتي الا اذا كان هناك دافع وراءه.. والدافع هو نحن وعملنا الدؤوب.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»
ضاقت بإسرائيل السبل فرفعت «بطاقة الهولوكوست»
وسوم: العدد 719