العودة إلى دائرة عباس
قد يبدو للعيان أنّ حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وعبر زيارة رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية القاهرة، رمت الكرة ثانية إلى ملعب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، حين أعلنت بوضوح عن استعدادها لحلّ اللجنة الإدارية التي شكّلتها لإدارة شؤون قطاع غزة، وهو القرار الذي أودعته لدى مصر. وستدعو هذه إلى اجتماع في القاهرة، يُفتح فيه ملف المصالحة الفلسطينية، وتأليف حكومة وحدة وطنية، على أن يقترن هذا برفع عقوبات الرئيس المفروضة على قطاع غزة. لكنّ ذلك ليس سوى ظلال الصورة، أمّا حقيقتها فإنّنا ما زلنا ندور في الدائرة ذاتها، ودائرة الرئيس عباس لا تنفك تعيدك إلى النقطة التي بدأتَ منها، لتبدأ دورة أخرى، وهكذا من دون أن تتجاوز ما أنت فيه، وإذا حدث وانتقلتَ إلى نقطه أخرى، فهي في دائرة أصغر وأكثر ضيقًا وأقل أملًا.
مع ذلك، ثمّة أمور باتت أوضح وأكثر جلاءً، في طليعتها أنّ الوهم الذي تسرّب إلى قطاع غزة حول آفاق مصالحة "حماس" مع مجموعة محمد دحلان واقتسام السلطة معه قد خفّ بريقه، وأنّ ما قيل عن فك الحصار عن القطاع وفتح معبر رفح بصورة اعتيادية للمسافرين والبضائع بعد عيد الأضحى قد تبيّن كَذِبُه، وأنّ البديل المصري لتزويد محطة كهرباء غزة بالطاقة لم يتعدَّ ما كان مقررًا أصلًا من إسرائيل والسلطة الفلسطينية؛ فساعات الكهرباء في غزة لم تزد إن لم تنقص، وأنّ المصالحة المجتمعية التي وعدت الإمارات، عبر دحلان، بدفع 50 مليون دولار لإنجازها ما زالت أمامها عقبات جمّة، وأنّ عودة محمد دحلان ومساعديه إلى القطاع لم تتمّ، وليس بمقدور "حماس" ضمانة ذلك، حتى وإن رغبت فيه.
كانت بداية القصة باتفاق عُقد بين النظام المصري وحركة حماس وما يسمى التيار الإصلاحي الذي يقوده محمد دحلان، وتضمن ترتيبات أمنية مع مصر لإنهاء الحصار المفروض على غزة، وتقاسم السلطة في القطاع، ودعم مالي إماراتي. ولأنّ الغريق يتعلّق بقشّة، تفاءل كل من لا يريد أن تبقى غزة تحت المعاناة التي تُكابدها، والتي ازدادت بفعل العقوبات الرئاسية التي فُرضت عليها.
لم يكن مستغربًا أن تتعاون "حماس" مع النظام المصري لضبط الحدود مع سيناء، فهي، والفلسطينيون عمومًا، ليسوا معنيين بدعم الحركات التكفيرية هناك، وليس من مصلحة قضيتهم اتهامها أو زجّها في أي شيء من هذا القبيل. لكنّ اللافت كان إقحام دحلان في هذا التفاهم، بحيث ظهر وكأنّه عرّاب هذا اللقاء ووجوده شرط لإتمامه، وأنّ الترتيبات الأمنية على الحدود، ويجب إنجازها في جميع الأحوال والظروف، بدت كأنّها نتاج صفقة شاملة؛ تشمل إعادة تثبيت دحلان مكوّنا أساسيا في الحالة السياسية الفلسطينية عبر بوابة "حماس" وقطاع غزة، بعد أن فشل جهد الرباعية العربية في فرض مصالحته مع الرئيس محمود عباس، بحيث أصبحت الخيارات أمام الجميع تنحصر بالاصطفاف حول أحدهما.
ثمّة سياق آخر جرى التداول حوله، إذ جاء ذلك في ظلّ النزاع الخليجي وحصار قطر والحملة على "الإخوان المسلمين"، فصُوّر بأنّه جزء من هذا كله، ونجاحٌ للإمارات ومصر في الحد من نفوذ قطر في قضية تلهب مشاعر الجمهور العربي، وإبعاد حركة حماس عن جماعة الإخوان المسلمين، وبذلك تفتقد الحركة الأم عمادًا أساسيًا من أعمدتها الكبرى. كما وُصف الدور الذي يقوم به محمد دحلان بأنّه جزء من هذه المعركة الكبرى التي تخوضها المنطقة كلها، بحيث تُخيّر "حماس" بين رفع الحصار وتقاسم السلطة أو إبقاء الحصار وفرض عقوبات إضافية عليها في حال استمرارها في خياراتها السابقة.
حسابات الحقل لا تتطابق أبدًا مع حسابات البيدر، وأدرك العارفون بدواخل الأمور، منذ البداية، صعوبة تحقيق أجزاء كبرى من هذه الصفقة، إذ إنّ موضوع رفع الحصار عن غزة لا يقرّره النظام المصري وحده، بل لا يستطيع هذا النظام أن يقرّر فتح معبر رفح، متذرعًا بأنّ ثمّة اتفاقا يحدد شروط ذلك، وربطه بغرفة عمليات للاحتلال الصهيوني من خلال مراقبين دوليين، ووجود حرس الرئيس على الجانب الفلسطيني منه. ولن توافق إسرائيل على فتح الحدود البرية مع مصر كيفما اتفق، فهذا يعني إغلاق المعابر والتجارة وعائداتها معها، والأهم فقدانها للرقابة الأمنية على الحدود، وهي لن تُسلّم بذلك، حتى لو كان ضمن تنسيق خاص مع مصر، ولن يجرؤ نظام عبد الفتاح السيسي على تحمّل تبعات ذلك. ولعلّ أبسط دليل على ذلك أنّ جرعات الطاقة التي توجّهت من مصر إلى غزة، بعد طلب السلطة من إسرائيل وقفها، لم تتجاوز ما كانت إسرائيل تقرّره، وأنّ مسألة المسافرين عبر معبر رفح لم تتحسّن قيد أنملة، من حيث العدد والمعاملة.
ثمّة أمور أخرى ما يزال تحقيقيها صعبا، مثل المصالحة المجتمعية التي تسير بخطىً بطيئة للغاية، على الرغم من توفر الموارد المالية لدفع ديّات ضحايا الانقسام، وهو الأمر الذي منع عودة كوادر من "التيار الإصلاحي" إلى غزة، حيث تصعب عودتهم ما لم تجر هذه المصالحة. وهناك من يحاول تشبيه المصالحة المجتمعية المنوي تنفيذها بالتي أُنجزت بعد
الانتفاضة الأولى مع ذوي الضحايا الذين تمّت تصفيتهم خلالها للاشتباه بتعاونهم مع الاحتلال. ويحدّثني الصديق فريح أبو مدين، وكان له دور مشهود في إنجازها، أنّهم في ذلك الوقت لم يواجهوا عقباتٍ تُذكر، وأنّ أهالي الضحايا كانوا فرحين لأنّ الثورة قد سعت إلى تحقيقها، إذ كان همهم الأكبر تبييض صفحة أبنائهم باعتمادهم شهداء. وفي هذا السياق، أذكر أنّ الثورة كانت عندما تُصدر قرارًا بإعدام جاسوس ما فإنّها كانت في اليوم التالي تعتبره شهيدًا سدًا لأبواب الفتنة، وحتى لا يتحمّل أهله وزر ما اقترفه.
في حوادث الانقسام، ذهب ضحايا كثيرون، وأحيانًا بطريقةٍ تخرج عن المألوف، في معارك الاقتتال الداخلي، ولا يوجد لبعض الممارسات التي اقتُرفت من الفريقين أدنى تبرير أخلاقي أو سياسي. من حق عائلات هؤلاء، قبل أن تُعرض عليهم ديّات أو تعويضات مالية عن أحبائهم الذين قتلوا، أن يسمعوا أولًا كلمة اعتذار تصدر عن كل من شارك في تلك الحوادث المؤسفة، لعلّ ذلك يكون بلسمًا على جراحهم التي لم تندمل.
قصارى القول، كانت حصيلة الأشهر الماضية تعزيز مواقع أنصار دحلان في غزة أمام عباس؛ نظرًا للإجراءات التي قام بها الأخير، وخروج الفلسطينيين من دائرة الاتهام الأمني في سيناء، وتحسّن في علاقات "حماس" مع مصر ضمن إطارها الأمني، وانكشاف العجز العربي عن اتخاذ أي إجراءٍ يتعلّق برفع الحصار عن قطاع غزة من دون موافقة إسرائيلية، وعودة ملف المصالحة إلى دائرة محمود عباس، وهي دائرة، كما سبق القول، عاجزة عن التقدّم أي خطوة إلى الأمام، حتى لو أُلّفت حكومة وفاق جديدة، فإنّ الحال، في ظلّ فقدان الرؤية السياسية الموحدة وغياب المشروع الوطني الفلسطيني، سيبقى على ما هو عليه.
وسوم: العدد 738