موقف مرجعية النجف من إستفتاء البرزاني

قال حذيفة " من إقتراب الساعة ان تكون أمراء فجرة، ووزراء كذبه، وأمناء خونة، وعلماء فسقة، وعرفاء  ظلمة". (الكنز المدفون).

المسألة الكردية وموضوع الإستفتاء وتبعاته القادمة مسألة حساسة جدا، وطرع الموضوح مهما كان الكاتب حياديا سوف يجابه بسخط من قبل احد الأطراف المتخاصمة، وإصرار البرزاني على إجراء الإستفتاء في مثل هذا الظرف الصعب لا يمكن النظر اليه بجانب أحادي، فهو قد وضع نفسه في عنق الزجاجة من خلال وعده للشعب الكردي بالدولة القومية، وبسبب الضغط الشعبي الداخلي في الأقليم من جهة، ورغبة البرزاني بأن يكون القائد الكردي الوحيد في الصورة بلا منازع، علاوة على تصدير المشاكل الداخلية في الأقليم، فهذه تحتم محاولة دعدغة الشعب الكردي بأحلام وردية، ربما ستتحول لاحقا الى كوابيس في ظل المعارضة الداخلية والخارجية للإستفتاء وتبعاته القادمة.

على الصعيد الداخلي رفض مجلس النواب وحكومة العبادي وزعماء الميليشيات الشيعية كافة الإستفتاء، وخول البرلمان القائد العام للقوات المسلحة استخدام كل الخيارات للوقوف بوجه الإستفتاء، بما في ذلك ضمنا الخيار العسكري، ومن الناحية الدولية فإن الأمم المتحدة والولايات المتحدة وكافة دول العالم بإستثناء الكيان الصهيوني وقفوا ضد الإستفتاء، ولا يمكن لدولة أي كانت أن تعيش بمعزل عن العالم الخارجي علاوة على الحظر الداخلي، سيما اذا كانت إمكاناتها محدودة جدا، ومخنوقة من رقبتها، فلا تركيا ولا إيران ولا الحكومة العراقية موافقة على الإستفتاء، بمعنى ان الدولة الكردية لا يمكن أن تحيا وتعيش بغض النظر عن ظروف إقامتها. ويبدو ان البرزاني إختار أن يتحدى العالم بأسرة في سبيل دغدغة مشاعر الأشقاء الكرد. والتأريخ يحدثنا بأن الأكراد فشلوا في إقامة أي دولة، حتى دولة مهاباد كان عمرها لا يزيد عن (11) شهر. الحقيقة ان الدولة الكردية بحكم التواجد السكاني الكردي يمكن أن تؤسس في تركيا أو إيران وليس العراق وسوريا.

صحيح ان البرزاني تحدى العالم بأسره، ولكن الشعب الكردي وليس البرزاني هو الذي سيدفع ثمن هذا التحدي، كخطوة غير مدروسة أو على أقل تقدير غير موآتية في وقتها بالنسبة للعراق ككل. بالتأكيد كان البرزاني قد إختار هذه اللحظة ليس إعتباطا، لأنها برأيه الأفضل للإقتناص، فالجيش العراقي والميليشيات الشيعية المنضوية تحت جناحه، وحكومة العبادي منشغلين بالحرب على داعش، سيما ان الكثير من القطعات العسكرية تحركت من الموصل الى غرب العراق لتحرير ما تبقى من الأراضي التي تحتلها داعش في محافظة الأنبار، وهذه فرصة مؤآتية لتجنب البرزاني ردة فعل عسكرية من قبل الجيش العراقي وملحقاته الميليشياوية، وقد إستبق ردة فعل بإرسال قطعات كبيرة من البيشمركة في كركوك وأطراف نينوى. هذا إذا تجاهلنا بالطبع ان إيران وتركيا ستساندان الحكومة العراقية في الرد العسكري في ظل تواجد قوات كبيرة من الحرس الثوري من جهة والقطعات التركية من جهة أخرى على حدود البلدين مع كردستان العراق.

هذا علاوة على غلق الحدود البرية من جهة وإغلاق الأجواء ووقف تصدير النفط من كركوك عبر تركيا، فهذه الإجراءات ستخنق إقتصاد الإقليم وتنهكه، ناهيك عن توقف المساعدت الأمريكية والأوربية للإقليم كما صرح العديد من المسؤولين الامريكان والغربيين. بالإضافة الى الإجراءات الحادة التي يمكن أن تتخذها حكومة العبادي كإغلاق القنصليات الأجنبية والتحذير من تصدير السلاح للإقليم او إستيراد النفط المصدر من قبل الإقليم، وربما إقصاء الوزراء والنواب والموظفين الأكراد من الدوائر الحكومية بما فيهم رئيس الجمهورية فؤاد معصوم. وهناك مشاكل أخرى تتعلق بجوازات السفر والوثائق الشخصية والإتفاقات الدولية والسفارات العراقية في الخارج، وإستخدام اللغة الكردية كلغة رسمية ثانية في البلاد، ومصير النواب الكرد في البرلمان، ومشكلة النازحين في الإقليم والمئات من القضايا التي ستبرز للعيان خلال الفترة المقبلة، فهل لدى البرزاني تصور كامل يمكنه أن يواجه العالم من جهة، والحكومة العراقية من جهة أخرى؟ هل هناك بدائل فكر بها؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة. ويبدو ان دفع قوات كبيرة من البيشمركة للسيطرة على حقول النفط في كركوك ستكون الشرارة التي تشغل النار بين الطرفين. وهذا يعني أن حمام الدم في العراق سيستمر وبشكل أعنف من السابق والخسارة لن تكون كردية وعربية البتة، بل هي خسارة عراقية.

البعض من القراء الأفاضل تساءلوا عن موقف مرجعية النجف من الإستفتاء والدولة الكردية القادمة، فقد أثار صمت المرجعية فضول الكثير من الناس في العراق وخارجه، المرجعية لم تترك زاوية في السياسية الداخلية والخارجية العراقية إلا وحشرت أنفها فيه، بل إنها تدخلت في أمور بسيطة لا قيمة وطنية لها، في حين صمتت وهي تشهد المرحلة الأولى من تقسيم العراق، وهذا موقف غريب يثير التساؤل والعجب!

البعض من المحللين السياسيين والكتاب بصم بإصبعه أن المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني كان مؤيدا للإستفتاء وقيام الدولة الكردية، والبعض الآخر رأى في صمت المرجعية موافقة ضمنية وفق قاعدة (الساكتون موافقون) كأنه يتحدث عن خطبة فتاة وحيائها تعبيرا عن موافقتها، وليس كارثة وطنية ستحل على العراق بأجمعه، والبعض الآخر اعتبر المرجعية غير موافقة ناصبا نفسه محاميا للمرجعية دون أن يعرفنا السبب ومن نصبه؟ مع ان المتهم لم يبس بكلمة بعد. إستغرب البعص من كون السكوت لم يتوقف على المرجع الأعلى علي السيستاني فحسب، بل بقية المراجع أيضا، والأكثر غرابة إن الذين صدحوا رؤسنا بداعش من خطباء المنابر الحسينية إلتزموا الصمت كذلك، كإنما هناك توجيه بعدم الإشارة الى أي موقف سلبا أو إيجابا لعدم إحراج المرجعية!

الحكم على موقف المرجعية لا يمكن الوقوف عليه دون الرجوع الى الخلف قليلا، وعندما تتعرف على الأسباب التي تقف وراء صمت المرجعية أزاء هذه الكارثة الوطنية ستدرك على الفور ضرورة إتخاذها موقف الصمت. فهي أخذت بالمثل (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب).

لو رجعنا الى الدستور وطريقة صياغته الأمريكية ـ الصهيونية وبصمة زعماء الكتل السياسية والمراجع كافة على ما تضمنه من ألغام مستقبيلة، وموقف المرجع الأعلى السيستاني في ضرورة الفراغ منه وعرضه للإستفتاء بسرعة محيرة، حتى دون ان يتعرف جمهور المستفتين على مواده المطلسمة أو عرضه للمناقشات الكافية من قبل رجال القانون. وهنا يجب عدم التغاضي عن توجيه المرجع الأعلى لأتباعه بضرورة الموافقة عليه اي الدستور، بل وصل الأمر بتحريم الزوجة على زوجها في حال عدم مشاركة التابعين للمرجع بعملية الإستفتاء والموافقة عليه. بمعنى ان المرجعية الشيعية وافقت على كل ما ورد في الدستور، والدليل إنها لم تتحفظ على أي نص أو بند ورد فيه.

وردت في الدستور العشرات من الألغام المستقبيلة لكن التنسيق بين الإدارة الأمريكية ومرجعية النجف عجل على تجاوزها المرحلي، على إعتبار المهم هو إعلان الدستور طالما ان الأئتلاف الشيعي والكردي هو الذي يقود العملية السياسية، وكان موقف أهل السنة لا قيمة له من وجهة نظر الإئتلاف الشيعي الكردي، فكل منهما حقق ما يريده في الدستور، وبقيت مسألة واحدة توقع الطرف الكردي ان حليفه الشيعي سوف لا يتردد في الموافقة عليها مستقبلا، وتوقع الحليف الشيعي ان الطرف الكردي سوف لا يلح عليها، فتركها الجانبان الى قوادم الأيام، ولم يدركا ان مسألة المناطق المتنازع عليها هي عود الكبريت التي ستشعل فتيلة العداء والطلاق بين الحليفين الإنتهازيين، وهذا ما جرى.

لو وضع أي فرد نفسه في موقف السيستاني سيتخذ نفس الموقف وهو الصمت!

إذا قال السيستاني ـ فرضا ـ إنه غير موافق على الإستفتاء والدولة الكردية المستقلة، فالجميع سيوجوهون أصابع الإتهام اليه، ويذكرونه بموقفه من الإستفتاء على الدستور، والإلحاح على عرضه للإستفتاء العاجل، وموافقته على كل المواد التي تضمنها بما فيه الموقف من كركوك (المادة 140)، فهو يتحمل المسؤولة الكاملة على ما آل اليه الحال، ولا يمكن لعاقل أن يبرئه وإلا كان في موقف لا يُحسد عليه من السخرية والحمق والجهل.

الموقف الآخر ـ فرضا ـ إذا قال المرجع الشيعي بأنه موافق على الإستفتاء والدولة الكردية، فإنه سيصطدم بموقف البرلمان والحكومة العراقية، وهذذا الأمر لا يعني الكثير، المهم عنده  موقف حليفة الأمريكي الذي عارض الإستفتاء، والأهم هو الموقف الإيراني المعارض للإستفتاء. فالمرجع فارسي ومصالح وطنه الأصلي لها الأولوية على مصالح العراق، ومهما حاول المرجع أن يظهر للعيان بأنه يعمل لمصلحة العراق، فإن مصالح إيران هي هاجسه الأكبر. ومن يدعي معارضته عقيدة ولاية الفقيه، سنقول له اليس الدستور من بركات السيستاني؟ اليس حكومات الإئتلاف الشيعي، والإنتخابات السابقة تمت بموافقته ومباركته؟ هي هل هناك أمر أجراه بريمر من حل الجيش العراقي، وإجتثاث البعث، وإلغاء الإعلام وتصفية الكوادر والعلماء دون مشورة السيستاني؟ اليست هذه الإعمال من إختصاصات ولاية الفقيه؟ معارضة ولاية الفقيه النظرية لا تلغي الموافقة العملية. إنه موقف يشبه من يلعن أبليس ظاهرا ويواليه باطنا.

وسوم: العدد 739