وجهة نظر حول " تسريب" التوجيهات للإعلاميين بمصر
تسريب الإعلاميين الأخير الذي بثته قناة مكملين، وجاء داعما لما تحدثت عنه صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، حول موقف رأس السلطة المصرية من القدس، لم يكن الأول ولن يكون الأخير، فهو واحد من بين تسريبات عديدة ضجت بها الساحة السياسية والإعلامية، تفاوتت في مستوياتها وخطورتها، لكنها لم تتجاوز حدود كشف أو تأكيد واقع أليم تعيشه مصر والأمة العربية. ورغم عظم خطورة بعضها، لم تحدث ردة فعل على مستوى الجماهير لتتلاشى آثارها واحدا تلو الآخر، بعد أن تضج بها البرامج على الفضائيات، وتصبح حديث الساعة ومنصات التواصل الإجتماعي، ولتحقق أعلى نسب تداول ثم تهدأ الأمور بعد تفريغ شحنة الغصب على فيسبوك وتويتر والفضائيات، وكأن شيئا لم يكن، ليصبح حصاد التسريبات أعلى نسب مشاهدة وتداول، ولكن على الأرض لا شيء، (كأنك تؤذن في مالطا على حد قول القائل)، مما جعل البعض يذهب إلى أن هذه التسريبات، أو بعضها، ربما يتم بغض طرف أو علم من جهات في السلطة، ولتوظيف سياسي وإعلامي. فليس الهدف منها كشف الحقيقة واستنهاض الهمة للدفاع عن المقدرات والأوطان، بقدر ما هو إشغال للساحة، وتهيئة للعقل الجمعي للجماهير، وتعويد لها على قبول الأمر الواقع بكل سوداوياته، وألا يتجاوز رد الفعل حدود مجالس الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي، ليصبح السؤال: وماذا بعد؟ فيرد البعض: في انتظار تسريب جديد.
لكن على جانب آخر، فإن هذه التسريبات - بدون شك - تصب في خانة الوعي، حيث سيأتي - لا محالة - وقت يُترجم فيه هذا الوعي إلى عمل على الأرض.
مما لا شك فيه، أن التسريب الأخير بخصوص تهيئة وتوجيه الرأي العام المصري للقبول بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ لم يأت بجديد، ولكنه كان كاشفا لحالة موجودة ورؤية من يدير مصر الآن.
وهذا التسريب، رغم أنه يضم شخصيات ليست ذات وزن كبير أو مصداقية عالية، إلا أنه يحمل دلالات مهمة من خلال الإشارات التى حملتها المحادثات، ويمكن تلخيصها في التالي:
1- هذا التسريب ربما تم تمريره من خلال السلطة ذاتها، وليس رغما عنها. ويشي بذلك مستويات المخاطبين من الإعلاميين ورتبة الموجه لهم.
2- وحتى إن كان هذا التسريب نتيجة اختراق من جهة ما، فما يحمله التسريب لا يرهب السلطة ولا يخيفها على الإطلاق، بل هو خادم لتوجه السلطة الحالي، خاصة أن السلطة اختبرت ردة فعل الشارع المصري أكثر من مرة، سواء في التنازل عن تيران وصنافير واتفاقية سد النهضة، وغيرها من الأحداث، ومن خلال الإجراءات الاقتصادية الموجعة التي اتخذتها طوال الفترة الماضية.
3- هذا التسريب وانتشاره يصب في اتجاه التطبيق العملي لما يعرف باستراتيجية التدرج واستراتيجية التأجيل. فالأولى تقوم علي التدرّج في القيام بإجراءات مؤلمة، وتمريرها عبر جرعات من خلال سياسة مرحلية تستغرق أحيانا سنوات وعقودا، حيث أنها لو قدّمت دفعة واحدة لربما أحدثت ثورة عند الناس. وهذا التسريب وغيره جرعة من هذه الجرعات.
أما استراتيجية التأجيل، فهي استراتيجية تتلاعب بالوقت، وتنتهج سياسة تعويد الشعب علي قرارات مستقبلية، حتّي يحين وقتها، أو ما يعرف ببالون التجارب. وهذا التسريب أعتقد أنه يصب في هذا الاتجاه، خاصة أن إدارة السيسي، ومعها أطراف إقليمية ودولية، بات أمر القدس وفلسطين بالنسبة لهم مفروغا منهما.
4- هذا التسريب في حد ذاته يؤكد أن أمورا كانت من المحرمات باتت أمرا طبيعيا قابلا للنقاش والتداول، وتهيئة الرأي العام، بل والبحث عن مبررات، خاصة في ظل حالة الاسترخاء الكبيرة لدى الجماهير المصرية والعربية، ووجود من يمكنه قبول جميع ما يصدره إعلام السلطة من مبررات.
5- في نهاية المطاف، التسريب ينضم لغيره من التسريبات شديدة الوقع، بل والخطيرة، ولا يمثل صدمة بقدر ما يمثل كشفا وتأكيدا لواقع موجود.
6- رغم أن ردات فعل الشارع المصري والعربي في قمة الاسترخاء، إلا أن ذلك لا يعني أن الشعوب قد استسلمت، ولكن سنة التغيير ماضية والمسألة ما زالت مسألة وقت.
إن التسريبات العديدة التي ضجت بها مصر والمنطقة تؤكد أن مصر ومعها نظم في المنطقة لم تستطع أن تقيم دولا حديثة عبر إحداث تنمية مستدامة، ولم يتحقق استقرار سياسي، بغير الاعتماد على القوة الأمنية الباطشة، والأهم من ذلك لم يتم حفظ الأمن القومي لمصر والمنطقة العربية، ولم يتحقق استقلال حقيقي، وليس من المأمول أن يتحقق شيء من ذلك في حال الاستمرار بهذا الشكل، لذلك فالمنطقة مقدمة على تغيير حتمي تقاد إليه رغما عنها، وإن طال الوقت، فالتغيير في مصر بالذات صار شرطا لبقائها، ومعها المنطقة بأسرها.
وسوم: العدد 754