طالَ السكوتُ ولم أشأ إزعاجَهُ=هوَ صاحبي مُذْ بانتِ الأظفارُ
عَقَدَ الجبينَ ودسَّها في جيبِهِ=وتَشابَكتْ في وجِهِهِ الأفكارُ
ما أتفَهَ الدنيا التي نجري لها =أسَفي عليهم ، خابَتِ الأعذارُ
أنا راحِلٌ فليكتووا بِفِعالِهم=وليَأتِهِم من بَعدِيَ الإعصارُ
بَعدَ الذي أفنَيتُ من عُمري لهم=أتَقاعُدٌ وليسَ فيهِ خَيارُ
وأنا الذي ملأ المناصبَ حِكمةً =وَبخِبرتي كم هانَتِ الأخطارُ
هوّن عليكَ -همستُ في لُطفٍ لهُ- =إنّ التَقاعُدَ للكِبارِ سِتارُ
زَرَعَ الأوائِلُ يا صديقُ لأجلِنا=والوَقتُ حانَ لِتُكمَلَ الأدوارُ
آنَ الآوانُ لِتستِريحِ خُيولُنا =ولَعَلَّ يُصلِحُ شأننا العَطارُ
ضَحِكَ الصديقُ وقهقهتْ أركانُهُ =وتَرَتّبَت في ذِهنِيَ الأفكارُ
وإذا أرَدتَ الحَقّ أنتَ مُبالِغٌ =أوَلا تَغُصُّ بِمِثلِنا الأقطارُ
لا تَنسَ أنَّكَ في الحَياةِ مؤَقَّتٌ=وتَكادُ تَذهَبُ أنتَ والآثارُ
أتَظنُّ أنَّكَ للحياةِ بريقُها=وبغيرِ رأيِكَ لا يَكونُ قَرارُ
أَتَظُنَّ أنَّكَ في الحياةِ مُخلَّدٌ=وبِغيرِ نورِكَ لا يُضيءُ نَهارُ
أّتَظُنُ أنَّ الشمسَ تُشرِقُ كي ترى =سُبُحاتِ وَجهِكَ والنُّجومُ تَغارُ
أتَظُنّ أنّكَ إن رَحلتَ عنِ الدُّنا=تَهذي الغُيومُ وتَنضَبُ الآبارُ
هَوّنْ عَليكَ فقد تقادَمَ عِلمُنا =والفخرُ في غير الأوانِ شنارُ
هَوّن عَلَيكَ فأنت مِثلِي راحِلٌ=يوماً ولن يتأثّرَ الدولارُ
ما الأرضُ إلا ذرةٌ مَجهولةٌ=كهَباءَةٍ يلهو بها التيّارُ
هَوّن عليكَ أيا صديق فلَستَ في =دار البقاءِ ففي السماء الدارُ
هل نحنُ إلّا نسمةٌ عُلويةٌ =من روح ربّكَ والإهابُ مُعارُ
كأسُ المَنِيّةِ مُترَعٌ في كَفّنا=والشيبُ باتَ لِمِثلِنأ إنذارُ
الموتُ حَقٌّ والحياة محطةٌ =والكُلُّ يذهَبُ شِيبةٌ وصِغارُ
كمْ في المقابِرِ من ِشبابٍ أمّلوا =طولَ البَقاءِ فَحَلّتِ الأقدارُ
كم من صَحيحٍ ماتَ دونَ شِكايةٍ=ومُعَلّلٍ طالَت بِهِ الأعمارُ
ولعلّ ليلتنا التي نُمضي معا=تغدو ظلاماً ليس فيهِ نهارُ
هزَّ الصديقُ بِرأسهِ مُتَأثراً=ودعا بِخيرٍ تُختَمُ الأعمارُ
لكنهم بعد الفراق سيندموا=وسيحزنوا إن غابَتِ الأقمارُ
عُذراً صديقي -قلتها مُتبَسماً-=إن غابَ بدرٌ يستَهِلّ نهارُ
ستعودُ بعدَ وَفاتِنا الدنيا كما=كانتْ وتَشغَلُ أهلها الأخبارُ
ستعودُ تُشرقُ شمسُ يومٍ باسمٍ=وتعود تملأ أرضهم أزهارُ
ويعود يظلِمُ في الدّنا فُجارُها=ويعودُ يهزأ بالنبيِّ حمارُ
ويعود للأقصى الحزينِ أنينُهُ=ويعود يحمي حقنا أحرارُ
ويبيتُ قيسُ بن المُلوّحِ باكيا=ويكادُ من فرط الجوى ينهارُ
هذي الحقيقةُ يا أُخَيَّ فلمْ يَعُدْ=أمرٌ سوى أن تُسدَلَ الأستارُ
فاختر لنفسِكَ ميتَةً تنجو بها=فالقبرُ إما جنةٌ أو نارُ