علّم تلميذا...

ليس عنوانا ولا شعارا ولا دعوة عارضة..

إنه تذكير بواجب متعلق برقابنا جميعا. واجب بحق الأطفال الذين هم أطفالنا جميعا، والذين أضاعتهم ظروف لا يد لهم فيها. الطفل الذي ولد في المخيم منذ عشر سنوات لا يعرف معنى السقف!!

أردت أن أبدأ فهاجت بي الذكرى إلى قصيدة قديمة قالها الشاعر المرحوم علي الجارم ..

قصيدة علي الجارم، تصور مأساة الطفولة المشردة العامة، ونحن اليوم نواجه في بلدنا في أطفالنا مأساة الطفولة الخاصة تشردا.. وجوعا.. وحرمانا.. وفقدان تعليم!!

أريد أن أحدثكم عن قصيدة علي الجارم، ثم قلت أدعها تتحدث، وأدعوكم إلى قراءتها، هي طويلة نعم ولكنها ليست مملة للذين يتحسسون الجرح في جنوبهم..

أبدؤكم اليوم في محاولة لاستنهاض الهمم للتعاون على المشاركة في تعليم الأطفال السوريين، تحت عنوان "علّم تلميذا" وإليكم قصيدة علي الجارم..

أطَلَّتِ الآلامُ من جُحْرِهِ

أطَلَّتِ الآلامُ من جُحْرِهِ

وَلُفَّتِ الأسْقامُ في طِمْرِهِ

بُرْدَتُهُ الليل على بَرْدِه

وكِنُّهُ الْقَيْظُ على حَرِّه

مُشَرَّدٌ يَأوِي إلى هَمِّهِ

إذا أوَى الطيرُ إِلى وَكْرِه

ما ذاق حُلْوَ اللثْم في خَدِّهِ

ولا حنانَ المَسِّ في شَعْرِهِ

وَلاَ حَوَتْه الأمُّ في صَدْرِها

ولا أبٌ ناغاهُ في حِجْرِه

قد صَبَرَ النفْسَ على ما بها

وانتظَر الموعودَ من صَبْرِه

البَطْنُ مهضومٌ طواه الطَّوَى

ونامَ أهلُ الأرضِ عن نَشْرِهِ

والوجهُ لليأْسِ به نَظْرَةٌ

يَقذِفُها الْحِقْدُ على دَهْرِه

جَرَّحه الدهرُ فمِنْ نَابِه

تلك الأخاديدُ ومن ظُفْره

قد كتب اللّهُ على خَدِّه

خَطّاً يَبِينُ البُؤُسُ في سَطْرِهِ

وغار ضوءُ الحِسِّ من عَيْنهِ

وفرَّ لَمْحُ الأُنسِ من ثَغْرِه

والبشرُ أين البِشْرُ وَيْحي له

يا رحمةَ اللّه على بِشْرِهِ

يجرُّ رِجْلَيْه بَطيء الْخُطَا

كالْجُعَلِ المكْدُودِ من جَرِّه

إِن نام أبْصرتَ به كُتْلَةً

تجمعُ ساقَيْهِ إلى نَحْرِه

احتَبَسَتْ أوَّاهُ في قَلْبِهِ

واختنقت ويْلاهُ في صَدْرِه

وجفَّ ماءُ العَيْنِ في مُوقِها

ماذا أفَاد العينَ من هَمْرِه

سالت به نَهراً على لُقْمةٍ

فعادَ كالسائلِ في نَهْره

لا يَجِدُ المأوَى ولو رَامَهُ

أحالَهُ الدهر على قَبْره

هناك يَثْوِي هادئاً آمِناً

من شَظَفِ العَيْشِ ومن وَعْرِه

فكم بصدر القَبْر من ضَجْعةٍ

أحنى من الدهر ومن نُكْرِهِ

مَتْعَبَةُ الإِنسانِ في حِسِّهِ

وشِقْوةُ الإِنسان من فِكْرِه

كيف يُرجَّى الصفْوُ من كَائنٍ

الْحمَأُ المسنونُ في ذَرِّه

لم يَسْمُ للأملاك في أوْجِهَا

ولا هَوَى للوَحْشِ في قَفْرِه

رام اللبابَ المَحْضَ من سَعْيِهِ

فلم يَنَلْ منه سِوَى قِشْرِه

يسعَى وما يَدْرِي إلى نفعِهِ

سَعَى حَثِيثاً أم إِلى ضَرِّهِ

آمنتُ باللّه فكم عالِمٍ

أعجزه المحجوبُ من سِرِّه

اللّه في طِفْلٍ غزاهُ الضَّنَى

بأدْهَمِ الخَطْبِ ومُغْبَرِّه

في ظُلُماتٍ مَوْجُها زاخرٌ

كأنّهُ ذو النُّونِ في بَحْرِهِ

والناسُ بالشاطىء من غافلٍ

أو ساخر أمْعَنَ في سُخْره

والمَوْجُ كالذُؤْبانِ حَوْلَ الفتى

يسدُّ أُذْنَ الأُفْقِ منْ زَأرِه

نادَى وما نادَى سوَى مَرَّةٍ

حتّى طواهُ اليَمُّ في غَمْرِه

تظنُّه طِفْلاً فإن حقّقَتْ

عيناكَ لم تَعْثُرْ على عُشْرهِ

كأنَّه الشّكُّ إِذا ما مَشَى

أو ما يَرى النائمُ في ذُعْرِه

طَغَى به الجوعُ ففي دَمْعِهِ

ما فعلَ الجوعُ وفي نَبْرِه

واهاً لكفٍ لَصِقَتْ بالثرَى

وائْتَدَمَتْ بالبُؤْسِ من عَفْرِه

ماذا على الإحسانِ لو ردَّها

نَديْةَ الأطْرافِ من بِرِّهِ

ماذا على الإِحسان لو ردَّها

رَطيبةَ الألْسُنِ من شُكره

كم بَسْمَةٍ أرسلَها مُحْسنٌ

أزْهَى من الروْضِ ومن زَهْرِه

ولُقْمةٍ سدَّتْ فما جائعاً

رجَّحَتِ المِيزانَ في حَشْره

ومِنَّةٍ كانت جَنَاحاً له

طارَ بهِ الذائعُ من ذِكْرِهِ

ودَمْعةٍ يُذْرِفها مُشْفِقاً

أصْفَى من المَذْخُورِ من دُرِّه

لا تُزْهِرُ الجنةُ إِلاّ بما

يَسْفَحُه الباكِي على وِزْره

لو عَرَفَ الإِنسانُ ما أجرُه

ما ضَنَّ بالنفْسِ على أَجْرِه

يبقَى قليلُ المالِ مِنْ بَعْدِهِ

ويَذْهَبُ المالُ على كُثْرِهِ

بِيضُ أيادِي المرْءِ في قَومِهِ

أغْلَى من البِيضِ ومن صُفْرِه

والحُرُّ لا يَنْعَمُ في وَفْرِه

حتى يَنالَ الأحْداثُ عن قَدْرِه

والناسُ كالماءِ فمن ضَحْحضَحٍ

ومن عَميقٍ حِرْتُ في سَبْرِه

ليس الذي يُنْفِقُ من يُسْرِه

مِثْلَ الذي يُنْفِقُ من عُسْره

كم دِرْهَمٍ أُلْقِيَ في سِجْنِهِ

ولم يَنَلْ عَفْواً مَدَى عُمْرِه

لم يَرَ حُسْنَ الصُّبحِ في شَمْسِه

ولا جَمالَ الليلِ في بَدْرِه

يطْمَعُ وَخْزُ الجوعِ في وَصْلِهِ

ويُرْسِلُ الزَّفْراتِ من هَجْرِهِ

والمالُ كالْخَمْرِ إذا ما طَغَى

ضاقت فِجَاجُ الأرضِ عن شَرِّه

متى يَهُبُّ العقلُ من نَوْمِه

أو يستفيقُ المالُ من سُكْرِه

متى أَرَى النفسَ وقد أُطْلِقَتْ

من رِبْقَةِ المالِ ومن أسْرِه

متى أرَى الْحُبَّ كضَوْءِ الضُّحَى

كُلُّ امْرِىءٍ يَسْبَحُ في طُهْرِه

متى أرَى الناسَ وقد نُزِّهُوا

عن شَرَهِ الذئبِ وعن غَدْرِه

أُخُوَّةُ الغُصْنِ إِلى صِنْوِهِ

وبَسْمَةُ الزهْرِ إِلى قَطْرِهِ

ورَحْمَةٌ رَفّافَةٌ لم تَدَعْ

قلْباً يُوارِي النارَ في صَخْرِهِ

لا يُحْسَدُ الجاهُ على مالِه

أو يُنْهَرُ الْبُؤْسُ على فَقْرِهِ

كم شارِدٍ في مِصْرَ يا كُثْرَه

من عَدَدٍ يَسْخُر مِنْ حَصْرِه

ذَخِيرةُ الأمة أبناؤها

ماذا أفادَ النيلُ من ذُخْرِه

ماذا أفادَ النيلُ من ساعدٍ

أسْرَعَ مِنْ ضِغْثٍ إِلى كَسْرِه

وأَرْجلٍ أوْهَنَ من هَمْسةٍ

ومن نسيم الصبح في مَرِّه

ومن فتاةٍ فَجْرُها لَيْلُها

ومن غُلامٍ ضَلَّ في فَجْرِه

ألْقَتْهُ مِصْرٌ هَمَلاً ضائعاً

فصال يَبْغِي الثارَ مِن مِصْرِهِ

غاصَ من الآثامِ في آسِنٍ

يَكرَعُ مِلْءَ الفَمِ من مُرِّه

أسرَى من الليل وأمْضَى يَداً

من عَبَثِ الليل ومن مَكْرِه

كم ضاق من شِقْوَته عَصْرُهُ

وضاق بالسُّخْطِ على عَصْرِه

شَجاً بِحَلْقِ الوَطَنِ الْمُفْتَدَى

وشَوْكَةٌ كالنَّصْلِ في ظَهْرِه

مدْرَسةُ النشْلِ وَسَلِّ المُدَى

أسَّسَها الشيْطانُ في جُحرِه

إذا هَوَى الْخُلق وضاع الحِجَا

فكلُّ شَيْءٍ ضاع في إثْرِه

من يُصْلِح الأُسْرةَ يصْلِحْ بها

ما دَمَّرَ الإِفسادُ في قُطْرِهِ

جنايةُ الوالدِ نَبْذُ ابنهِ

في عُسْرِه إنْ كان أو يُسْرِه

لا تَتْرُكُ الذِئْبَةُ أجْراءَها

ولا يغيبُ الكلبُ عن وَجْرِه

البَيْتُ صَحْراءُ إذا لم تَجِدْ

طفُولةً تَمْرَحُ في كِسْرِه

فعاقبوا الآباءَ إنْ قصَّروا

لابُدَّ للسادِرِ من زَجْرِه

وأنقذوا الطفْلَ فما ذَنْبُه

إِنْ جَمَحَ الوالدُ في خُسْرِه

رَبُّوهُ يَنْمو ثَمَراً طيِّباً

لا ييأسُ الزراعُ من بَذْرِهِ

وعلِّموهُ عَملاً صالحاً

يَشُدُّ إن كافَحَ من أَزْرِه

ربُّوه في الريفِ لعلَّ القرَى

تُصْلِحُ ما أَعْضَلَ من أمْرِه

النفْسُ مِرْآةٌ وغُصْنُ النَّقَا

يَطيبُ أو يَخْبُثُ من جذْرِه

لعلّ هَمْسَ الغُصنِ في أُذْنِه

يُنْسِيهِ ما أضْمَرَ من ثَأْرِه

لعلّ أنْفاسَ نسيم الرُّبا

في صَدْرِه تُبْرِدُ من جَمْرِه

النيلُ يستنجِدُ مُسْتَنْصِراً

فأَسْرعوا الْخَطْوَ إلى نَصْرِه

لا يذهبُ المعروفُ في لُجَّةٍ

ولا يَكُفُّ الْمِسْكُ عن نَشْرِه

علي الجارم

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 978