ضفيرة من القلب
أ.د/
جابر قميحةإن ما أسوقه في السطور الآتية أعتبره من أغرب وقائع حياتي ، إن لم يكن أغربها . وآمل ألا يعتبره القارئ لونا من الفن القصصي ، فكل ما سقته يمثل حقيقة بكل جزئياتها . وأخذ بيد القارئ إلى التفصيل :
في صباح الثالث من يناير 2010 فوجئت بظرف منتفخ بعض الشيء في صندوق بريدي مرسل من سيدة لا أعرف اسمها ولا مسماها ، وعلى طرف الظرف كتب : مرسل من السيدة نظلة عبد الوهاب ــ 25 شارع رمضان بمصر الجديدة . وأعتقد أن الاسم والعنوان يدخلان في دائرة التسمية الوهمية حتى لا يكون الظرف المغلق موطن شبهة من رجال البريد . فتحت الظرف بيدين متلهفتين فوجدت فيه خصلتين من الشعر تمثلان نهايتي ضفيرتين ، وكل خصلة طولها قرابة عشرة سنيمترات .
كان الشعر ذا لون أسود فاحم ، ينطق بشباب نضِر دفاق ، والشعر ملفوف في رسالة نصها :
" سيدي الغالي الأستاذ الدكتور ج . ق . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أكتب إليك هذه الرسالة ، وقد يخطر في ذهنك سؤال مهم هو : ولماذا خصصتني دون غيري بهذا المكتوب ؟ وأجيبك يا سيدي العالم وأقول : إن ذلك يرجع لسببين :
السبب الأول أنني أعلم علم اليقين أنك إسلامي الطبيعة وإخواني النزعة، وهذا يعرفه الجميع على مستوى العالم العربي والإسلامي .
والسبب الثاني ما قرأته ــ ومازلت أقرؤه ــ لكم من مقالات وأشعار في مواقع النت المختلفة من مناصرة لقضية فلسطين و مناصرة حماس ورجالها الأبطال .
**********
أنا إسمي ــ أو اعتبر اسمي ــ نظلة عبد الوهاب ... مصرية ، ومتزوجة من مهندس فلسطيني لقي ربه في هجوم غاشم شنه الصهاينة على غزة وكان واحدا من العلماء الفنين لحركة حماس . وهاجرت أنا وأبنائي إلى مصر ولا نملك إلا دموعا دامية ، وقلوبا محترقة ، وذكريات تقلق نومنا بصفة دائمة . من سنوات وأنا في القاهرة أفكر في الطريقة التى أستطيع أن أساعد بها "حماس " العزةِ والجهاد ، والحماسة والنضال ... حدثتني نفسي أن أتطوع للقتال ، ولكن وقفت في طريقي عشرات من العقبات أغلبها سياسي وكثير منها يسلك سبيل الخيانة والممالأة والتبعية لأمريكا والصهاينة ، ومن أيام وأنا أتسلق سلم البيت الذي أعيش فيه في القاهرة زلقت ساقي اليمنى ، فكسرت ووضعت في الجبس وكانت كلمة الطبيب :
ـــ لن يفك هذا الجبس عن ساقك قبل شهرين ، وبعدها يبدأ العلاج الطبيعي بشهرين آخرين .
ساءلت نفسي ماذا أفعل وأنا حريصة على ألا ينقطع الحبل السري بيني وبين أرض فلسطين الشهيدة ، وبيني وبين دم زوجي الذي سفكه الأعداء ظلما وغدرا وعدوانا ، وأنا قعيدة ، كسيرة الساق محبوسة الحركة ، عاجزة عن أن أغادر فراشي ومقعدي؟ . وانقطاع فلسطين عني ، وانقطاعي عن فلسطين زاد من أرقي وسهدي . وقلت في نفسي " يا ليتني أعثر على من يحملني لأروي جسدي ، وأقضي بقية عمري في بحر ... غزة ... غزة هاشم التى يقبل شاطئها شاطئ مصر الحبيبة " .
ثم تذكرتك ياسيدي ورأيت مقالاتك وأشعارك التي كتبتها من أجل فلسطين تمضي في شريط يمس مني أعماق قلبي وضميري وحسي وشعوري بتاريخنا الشهيد ... فلم أجد أمامي ــ بعد الله ــ إلا أنت ، وقررت أن أرسل إليكم خصلتين من شعري الذي كنت أعتز به وأنا تلميذة صغيرة ، وكانت أمي بارعة في "تضفيره " ، وتبدي غضبها مني إذا ما رأته غير منتظم ، فهبطت علي فكرة ، خلاصتها أن أحيي ذكرى أمي في ضفيرتيَّ المنتظمتين ، وذلك بقص الخصلتين المرسلتين إليك ، بديلا عني ، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ، وأسألك بالله يا أستاذنا الفاضل أن تدفن " هاتين الخصلتين " بالتراب الفلسطيني ؛ فقد يشعرني ذلك بعودة الحبل السري بيني وبين فلسطين الشهيدة . وآمل أن تخطرني بما فعلت عن طريق مواقع النت . شكرا شكرا يا أستاذي الغالي ، وأبقاك الله نصيرا للإسلام والعروبة وفلسطين " .
التوقيع : نظلة .
الشعر الذي أرسل للدكتور جابر
**********
نظرة من الدكتور جابر إلى الشعر المرسل إليه
كانت هذه هي كلمات الرسالة وأنا أقول بصدق وإيمان : يا سيدتي الفاضلة لقد ذكرتني بأبيات من الشعر عنوانها : إلى بسمة بنت خان يونس ، صدرتها بالكلمات الآتية :
إلى بسمة الفتاة الزهرة التي قتل الصهاينة جدتها ذات مساء، والتقيت بها في 27 من مارس 1968م، وفي قلبها لوعة باكية، وفي عينيها بكاء ملتاع، وقصت عليّ قصتها، وسألتني سؤالها الدامي: ما مصيرنا؟ وما المآل؟
لا تحزني ... لا تحزني
لا تحزني يا بسمةَ الخيالْ
وأنت تسألين ما المآل؟
وهل نعود للديار ذاتَ يومْ
ونقطف الزيتون والآمال؟
وهل تعود بسمتي إلى الديارْ
تقبل الضياءَ والظلال؟
وهل نرى الفراشَ في الحقولْ
ونغرف المياه بالأكفْ
نرشها باوجهِ الصحابْ
وننشئ البيوتَ في الرمالْ
ونهدم البيوتْ
لنبتني بيوتْ
- - - - -
وعندما يعانق المساءْ
رياضَنا الخضراءْ
تقص جدتي
حكايةَ الزمانْ:
فكان ياما كانْ
في سالفِ الأوانْ
- - - - - - -
- - - - - - -
ولم تتم جدتي بقيةَ الحكايةْ
ففجأة يصيرُ بيتُـنا ترابْ..
رباه إني قد رأيت بيتنا ترابْ
وطاردتني في الظلام لعنةُ الخرابْ
وسرتُ في الدروبْ
بخطويَ الغريبْ
فهل نعود للديار ذات يوم
لنقطف الزيتون والآمال؟
وهل تعود بسمتي إلى الديار؟
تقبل الضياء والظلال؟".
***
لا تحزني لا تحزني...
فبعد ليلك الكئيبْ
وبعد سيرك الظمآن في الدروب
وبعد أن ناءت خطاك في سُرى تريبْ
وبعد رحلة العذابِ والهوانِ والشحوبْ
وبسمةٍ تذوبْ
ولوعة تصوبْ
وبعد أن تحطمت رُؤاكِ في النحيب
سيشرق الضياءْ
وتهزج الطيورُ في السماءْ
تعانق الحياة والضياء
وتزرع الألحان والنماء
لا تحزني ... لا تحزني
ولتمسحي الدموعْ
ولتقهري الأسى:
- - - - - - -
- - - - - - -
فالصوت يدعو للكفاح:
إشارةِ البدءِ المجيدةْ
تدعو إلى الزحف المقدسْ
يا بورك الصوتُ المجيدْ
يا بورك الزحف المقدس
فلتسمعي يا بسمتي
فالصوتُ أصبحَ للهزيمِ وللهديرْ
لا صوتَ إلا للرصاصْ
يشدو بأنغام القصاص
في زحف معركةِ المصيرْ
- - - - - - - - -
لا حكم إلا للرصاص وللسعير
ولتنظري يا بسمتي
للسيلِ يزحف ماردًا ظمآنَ للثأر الحقودْ
والشعبُ يقصف هاتفًا كالنار
"هل لي من مزيد؟"
والحق يعصفُ بالقيودِ
وبالوعيد وباليهودْ
ليطهر الأرض الشهيدةْ
سينا وقدسَ الأنبياءْ
ويعيد للأفقِ الصريعْ
فجر الحقيقةِ والربيعْ
ويزيِّـنَ الدربَ المدمَّى
بالورود وبالشموع
لا تحزني يا بسمتي
يا مقلتي ومهجتي
وترقبي الفجر الحبيب
فغدٌ لناظرِه قريبْ
**********
وعودا على بدء أقول : أيتها الفاضلة لقد تلقيت رسالتك وما حملته من شعرك الأسود الفاحم ، فتحركت فيَّ أعمق المشاعر : رأيت في سوادها حلكة الظلام الذي تعيشه غزة في أيامنا هذه ، وسواد قلوب قادتنا الذين آثروا الآخرة على الدنيا ، وعاشوا ــ ويعيشون ــ إمعات تابعة ، بعد أن ضيعوا الأمانة ، وفرطوا في الحق ، ومن ناحية أخرى رأيت في شعراتك إنبثاق اللألاء ، ونور الصفاء ، وصدق العزيمة ، وكأنك شخصية من شخصيات الأساطير القديمة ،. وما نحن إلا آليات للنصرة ، أو جنود في كتيبة الحق .
وتشاورت مع أستاذ كبير عالم . واتفقنا على أن نرسل خصلتيْ الشعر مع أحد الإخوة الذين يتمكنون أحيانا من العبور إلى غزة ، وقصصت عليه القصة ، وسألته بالله أن يحمل هاتين الخصلتين ــ بعد أن لففتهما في منديل من حرير ــ ويدفنهما في أقرب مسافة من غزة إلى مصر ، ووفى الرجل بما وعد .
وبذلك امتزج جزء منك ــ يا سيدتي الفاضلة ــ بتراب الأرض المناضلة ، وأملي أن يخفف هذا من أحزانك بعد أن واصل الحبل السُري اتصاله بواحدة من أنبل وأنقى وأطهر سيدة من سيدات فلسطين ومصر . وآمل أن تعيشي في الآيات التالية :
في قوله تعالى : " إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ " الحج (38) .
وقوله تعالى : " ... وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ " الروم(47) .
وقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) " محمد ( 7 و 8 )
وقوله تعالى : " يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " التوبة 32 .
والله معنا ، عزت أواصرنا ، طابت عناصرنا ، الله ناصرنا ، لا عبد يخزينا . والله أكبر ولله الحمد .