النفخ في الطين(1)

النفخ في الطين

شعر:د. حسن الأمراني

[email protected]

سبحانك اللهم...

يا من تنقل عبادك من حال إلى حال..

وتتفضل عليهم  بعقبى الدار وحسن المآل..

إن هم أخلصوا في السير، وجدوا في طلب الوصال

سبحانك اللهم..

تفضل علينا بعفوك وبمـنّك

وتجلّ علينا بجمالك وبديع حسنك

واشملنا يا ذا الجلال

بحلل المحبّة والجمال

كلمة عن القصيدة

 هذه أطول قصيدة أكتبها، ولها قصة.

    صدر لي عبر ثلاثين سنة خمسة عشر ديوانا، ولي مثل ذلك من القصائد مما عرفته المنابر الثقافية أو المؤتمرات والملتقيات الأدبية ولم يجمع بين دفتي كتاب،فمن الشعر ما هو على النمط الخليلي الأصيل، ومنه ما هو من النمط الخليلي المستحدث،مما عرف بالشعر الحر أو التفعيلي أو ما إلى ذلك من التسميات التي ناهزت عشرة, وما من قصيدة إلا لو شئت لترددت فيها، ليس هذه القصيدة.

     في رمضان من هذه السنة،1425، كنت في الإمارات العربية المتحدة،حيث حضرت مؤتمر الهدي النبوي،وشاركت في إلقاء بعض الدروس والمحاضرات التي تنظمها وزارة العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الإمارات كل رمضان، بدعوة كريمة من المغفور له سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله تعالى.وكان ممن لقيتهم هناك رجل من اليمن، عالم وشاعر،هو الشيخ عبد الله بن إبراهيم الضحوي،وقدر الله تعالى أن نترافق فترة من الزمن في أبي ظبي ثم في الشارقة، وكانت تلك الرفقة مناسبة للتداول في قضايا العلم والأدب،وقد أنست إلى الشيخ عبد الله وأنس لي،وأبدى سعادته لأني كنت أجاريه فيما يثيره من قضايا العلم والأدب، وكان يعجب من مجاراتي إياه. والحق أنه كان أكثر محفوظا مني، وإنما كنت أجاريه = في بعض الأحيان = دراية لا رواية، ومن ذلك أنه ساق إلي هذا الخبر:غنت جارية بحضور عدد من الوجهاء والعلماء،وكان من بينهم أبو العباس المبرد:

وقالوا لها: هذا حبيبك معرضٌ      فقالت ألا إعراضه أيسر الخطب

فما  هي  إلا نظرة  بــتبسم      فتصطك  رجلاه  ويسقط للجنب

فقلتمعرضاً)، فقال مبتسما ومتعجبا:نعم. وظن أني أعرف القصة من قبل،فطمأنته أني لا أعرفها،وطلبت منه إتمام الخبر،فقال:فطرب جميع من بالمجلس إلا المبرد،فقالت الجارية:دعوه،فقد ظن أنني أخطأت في إنشاديهذا حبيبك معرض)،وما علم أن ابن مسعود قرأوهذا بعلي شيخٌ) بالرفع.قال: فطرب المبرد طربا كاد معه يشق ثوبه لفطنة الجارية وعلمها بالقراءات. 

    وكان الشيخ الضحوي حافظا، فكان أن أملى علي قصيدة من محفوظه في أكثر من خمسين بيتا، في نظم أسماء سور القرآن الكريم، قال إنه سمعها من شيخه سيدي مقبول الأهدل منذ خمسين عاما.ثم افترقنا وأنا أَعجب من قوة حافظته،وأُعجب بهذه القصيدة التعليمية الجميلة.وتساءلت:لم انصرف الناس عن مثل هذه المنظومات؟ وما المانع من إحياء هذا النمط من الكتابة الشعرية؟

      ثم ما شعرت بعدما خلوت إلى نفسي إلا والشعر يتدفق على لساني، مجاريا قصيدة الشيخ الأهدل، لا من باب المعارضة،فروي قصيدته الراء وروي قصيدتي الدال، وإن كانت القصيدتان معا من الكامل،وإنما جاريته من باب القصد والغرض.ثم إني وجدت نفسي أسعى إلى أن أجمع  - فيما أزعم- إلى براعة النظم،وهو ما عرفت به المنظومات، شيئا من نداوة الشعر وما فيه من الصور والأخيلة، دون إسراف، فجاءت القصيدة لذلك أطول من قصيدة الشيخ الأهدل بحوالي أربعة أضعاف،في ثلاثة أقسام بدلا من قسم واحد،فكان القسم الأول تصويرا لمعاناة ذاتية ممهدة للقسم الأصلي.فمن أراد الجانب التعليمي وحده فله أن ينصرف إلى القسم الثاني مباشرة، ومن أراد أن يحيط بما أحاط بالقصيدة من ظروف فلا بأس عليه إن هو  أقبل على قراءة القصيدة بكاملها.

    والله أسأل أن يتقبل هذا العمل في الصالحات وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.

 

النـــفخ في الطيــن(1)

لما تملكه الجمــال تقــــيّدا

وغدا بمحراب الجـمال مــرددا:

 

للعشق صولــته، وأشــرفه إذا

جسّت أنامله فــؤادا غـــرّدا

 

يا نفسُ، يومُ الثلج كان مســعّراً

بردا، وكان مـن المعـاصي موقدا

 

شاقتك روضات الهوى فتبــعتها

متمركشا،متدمشقا، مــتبـغددا

 

وإذا سلوتَ رأيت قلبك متْهمــا

وإذا صبوت رأيت قلبك منجــدا

 

وتركت فوق تراب كل مدينــةٍ

شيئا من العشق الجريح مبـــدّدا

 

ولكم سمرتَ بها، ورُبّ سمــيرةٍ

ضحكتْ فأوردتِ العصافير الردى

 

قالوا لها: هذا حبيبُك معــرضٌ

قالت: أيعـرض من قضى متنهدا؟

 

وبنظرة كسلى، وطيــف تبسّم

يهوي الغرير إلى الجحيم مصـفّدا

 

بحر الهوى شبكٌ، ولا ينجو سوى

من كان بالإخلاص موثوق السَّدى

 

يا نفسُ أخطأتِ الطريق لغايــة

عظمت، فزهر العمـر ننفقه سُدى

 

قالوا:ضلال ما تريد من الهــوى

فاحذر صـوارمه مسنّنة المُــدى

 

فأجبتهم: ماذا عليّ إذا غـــدا

تبعاً هواي لأحمدٍ؟ ولقـــد غدا

 

أنا لا  أبيع بشهــوة روحي ولا

بالعاجل الفاني أبيع مخلــــدا

 

هيهات، ما من غادة أحبـبتهــا

إلا نشرت لها من التقـــوى رِدَا

 

لكن قلبي قال لي متـعتـــبا :

ما كان كبْرٌ عن جهنّمَ مُـبْعــدا

 

ما زيّن الشـــيطانُ أعمالَ الورى

إلا ليغوي ناسكـاً متعبـــــدا

 

أما الغــويّ فإنه من جنـــده

كم من غـوي قد أطــاع   فجنّدا

 

جلـــب الرجيمُ بخيله وبرجلــه

ولكم أغــار على العباد وأنجــدا

 

يا أيها الصــلصال،هل أنْسـيت إذ

وقع الملائـــكُ باسمه لك سجّـدا؟

 

سوّاك مــن حمإ إلهُــك راحمـاً

حتى استويت على الـخلائق سـيّدا

 

فإلام تكفُــر بالذي أولاك مــن

نعمٍ؟وهــل لمنعّمٍ أن يجحـــدا؟

 

"قال ألـست بربّكم قالـــوا بلى"

كانت لك الظـل الوريف المنجدا

 

يا أيها الصلــصـال أقصرْ، إنّـه

يوم الحسـاب، ألست تستمع الندا؟

 

يا رُبّ محــصنةٍ كشفتَ قناعها

جهلا،وباتت أمنيـــاتك ورّدا

 

وهبـتْك مصباحَ الهدى ومنَحْتها

شـرراً كعصف الريح حرّك أزندا

 

أفضى إليك خيالها في غفلـــةٍ

وظننت أنّ ثيابها لن تُكـــمدا

 

حتى إذا طلع الصـــباحُ تركتها

ذكرى، وكنت صريعها  المتـودّدا

 

وهــمٌ من الأوهامِ أحلام الهوى

ما لم يكن لك مئزراً حللُ الهـدى

 

ما أنت؟ نورٌ، أم هيولى قُــدّستْ

طلعتْ على الأيّام نجمــا مسعدا؟

 

أم أنت محض ضلالةٍ   قـد جرّدت

في وجه من سـلك الطريق مهنّدا؟

 

إني أراك نســائماً فـــوّاحةً

آنا، وإعصـاراً أوانا مزبـــدا

 

يا عبدُ، لستَ سـوى الذي تختاره

ولك الفلاح إذا تكـون موحّـدا

 

يا كم سقتك الغيد كـأس غوايـةٍ

صرعتكَ حتى ما وجـدت تجلّـدا

 

سكرانَ من شهد الرضاب ولم تكـن

للنفس إلا ناقـعاً  أو أســــودا

 

تسقيك كأسَ الـيأس أقــداحُ المنى

والسهم كان  إلى منــاك مسـدّدا

 

رباه،كيف إلى الضـلال تجـرّنــي

نفسي، وقد أضحت عـروقي ورّدا؟

 

لا معصمٌ يَهدي،ولا شفة علـــى

شفـةٍ تضيء لك الطـريق الأربدا

 

ترجو الهدى سفهاً، وأي هـــدايةٍ

تأتيـــك ممّن كان أوهنهـم يدا؟

 

بين الرجا والخوف قدتُ سفيـنتـي

هل أخطأ الطين المسوّى المقــودا؟

 

ولكم تصرّمــت الثواني سرعــة

يوماً إلى أمـــد وليــلا أربدا

 

ولربّما ذرّفتُ ملتهبَ الحشــــا

حذَرَ الجحيــم مسهِّدا ومسهَّـدا

 

ولربّما طوّفتُ مضطرم  الخطـــا

أبغي الجهـاد إذا الجهـاد توكّـدا

 

ولقد أقوم لدى المحافــل مُنْشـدا

شعر الخروج وقد جفـوت المرقـدا

 

والقلب يتلولو أرادوا..) خـاشعا

والنفس تبصـر ما أعـدّ وما حـدا

 

وأقول:سَجني خلــوة،وسيـاحةٌ

نفيي،ونور القلب أن أستشـهــدا

 

حتى إذا هبّت أعاصــــير المنى

كالمـوت أبرق في الضمير وأرعـدا

 

أظــمتنيَ الدنيا فلمّــا  جئتها

مستسقـياً كان الشـرابُ مُصَـرّدا

 

واهتـزّ خافقيَ الجريــحُ  مخافةً

أن يحبـط الأعمـالَ ظـنٌّ عـربدا

 

ما أنتِ يا نفسي؟ أشُــــعلة ماردٍ

نـكِدٍ على سُبل السلام تمـــرّدا؟

 

أم أنت فيض ألوهـــةٍ قدسيّــةٍ

رفعتْ  عن القلب الحجابَ فمـجّدا

 

يا كـم لها من غرفــةٍ مـأذونـةٍ

نهــر المحــبّة كم أظـلّ وأبردا

 

سبحانك اللـهمّ، نورُك خلعــةٌ

للمتّقيــنَ، فمن يريد العسـجدا؟

 

سبحانك اللهمّ، حُـــيّر زورقي

والناس من جهـــلٍ تولّوا حُسّدا

 

طوراً تصافحــني الملائك جهـرةً

فأرى كبير الجنّ راح مصفّـــدا

 

وأرى شياطــين الجـحيم  تجرّني

طوراً إلى قعــر الجحيـم   منكّدا

 

واضيعة العمْــر الذي أنفقـت في

أعماق لجــــته الشباب الأملدا

 

هي سيرة المجنون قد طُويت، فـإن

نشرت:أيهلك أم يئوب ممجــدا؟

 

وشربت حتى استنـزفت شفتي اللمى

فازددت – واعجباً – بمنهلها صدى

 

حتى إذا ما استـيأست شفتاي مـن

بلّ الصدى نزل السماء زمـــرّدا

 

يا حسـنها من غـادةٍ مجلـــوّةٍ

كجُمانة البحريّ جمّلهــا النـدى

 

تسقـي على ظـــمأٍ زلالا بارداً

كرمتْ أزاهيرا وطابـــت موردا

 

أزلية الأوصـــاف جدد  حسنها

كرّ الليالي، ليس يبليها  مـــدى

 

زهراءُ لم تسمـع بسحر صفاتهــا

من قبل بابلُ، أو ينلــها من شـدا

 

ولو اَنّ معبداً اصــطفــى ألحانها

لم تسـمع الأيّــامُ إلا معبـــدا

 

مكّــــية، مدنـــية، آياتها

كانت لعاشـقها ظبـــاءً خرّدا

 

جاءتك في حلل السنا  منظــومةً

كالعقــد في جيد الصباح  توقّدا

 

يا أيها الساري، وقد طالـت نوى

وامتدت الظلمات  ظلا أســودا

 

النفخ في الطين اصطفـاك،فلا تكن

بعد الـعطـايا  منكراً متمــرّدا

 

والقلب آنس بعد طول ترحّــل

نار القرى، بل إنّها نــار الهدى

 

فاخفض جناحك واستقم،هذا طُوى

واخلــع  إذن نعليك لا  مترددا

 

ما نفخة الرحمـن إلا رحـــمةٌ

فانزع لباســـاً بالقنـوط تغمدا

 

واللهُ يا محـــزون أقبل باسطا

يـــده   فبادر توبـة  وتعبدا

 

أرسل دموعك، لا جناح عليك، لا

فقْدا، ولكـنْ  طير شـوقك غرّدا

 

فقم الليالي رغبة أو رهبــــة

متبـتّلا ومرتـــلا   متهجدا

 

واشرب على ذكر الحبيـب مدامة

قدسية، روحــي لسطوتها الفدا

 

وإذا اقشعرّ الجلد منك مهــابة

وطمعت في توبٍ يكون لك الردا

 

وأردت معراجاً لأكرم منــزلٍ

قــم في البرية يا رفيقي منشدا:

يتبع في العدد القادم إن شاء الله.