تعز .. معشوقةُ الأزمان

لو أجدبَ الحقلُ يوماً بعدَ خصبتِهِ

وشَحَّتِ الغيمةُ السوداءُ بالقَطْرِ

عوَّضتُهُ بعدَ دهرٍ مقفرٍ  سُحُباً 

تكسو مرافئَهُ بالسندُسِ الخُضْرِ

ترتاحُ في ظلِّهِ الأشواقُ إن غربَتْ 

شمسٌ وإن أشرقَتْ تفْتَرُّ بالبِشْرِ

حتى دهتنا دواهي الحربِ في وطنٍ 

ودُمِّرتْ كُلُّ روضاتِ الشذى السِّحري 

فالأرضُ شاخصةُ الأبصارِ صائلةٌ 

مهدودةُ العَزمِ في غيبوبةِ السُّكْرْ

جرداءُ قاحلةٌ صفراءُ ذابلةٌ 

والغيثُ منحبِسٌ والناسُ في عُسْرِ 

هذي زوابعُها الهوجاءُ ما برِحَتْ 

تُداهنُ الضُّرَّ لا تقوى على الضُّرِّ

" تعزُّ " ريحانةِ الدنيا وجنّتُها 

وثورةٌ لم تزَلْ في أوَّلِ العُمْرِ

جداولُ العلمِ تسري في خمائلِها

تُضَوِّعُ الأفقَ بالريحانِ والعطرِ

مدينةٌ بظلالِ الأنسِ وارفةٌ 

مسكونةٌ بجمالِ الحُبِّ والطُّهرِ

زيتونةٌ تزدهي في الروضِ دانيةً 

قطوفُها تنحني للباذلِ الخيرِ

تهتزُّ كُلُّ ثمارِ السلْمِ في يدِها

كهزةِ العُشِّ في تسبيحةِ الطيرِ

لو أخصبَتْ تحمدُ الرحمنَ في رغَبٍ 

أو أجدَبَتْ لم تخَفْ مِن عضَّةِ الدَّهرِ

عصفورةٌ رجمَتها اليومَ شرذمةٌ

في عشِّها الحلوِ في بستانها السحري

فكسَّرتْ بشواظِ الحقدِ أضلُعَها 

وحطّمتْ تاجَها المرصوعَ بالدُّرِّ

غصونُ كرمَتِها الخضراءِ ذابلةٌ 

وعشبُها الحلوُ مصفَرٌّ من القهرِ 

كانت مراتعُها تزهو بخُضرِتِها 

واليومَ تخلو من الريحانِ والزهْرِ 

كانت شوارعُها تبدو مذهَّبةً 

ونورُ أضوائِها كالكوكبِ الدُّرِّي

واليومَ مُظلِمةُ الأرجاءِ موحشةٌ 

كأنها لم تكُن كالشمسِ والبَدْرِ

غدتْ ميادينُها الفيحاءُ مقفرةً 

كأنّها لم تكن تكتظُّ كالبحْرِ

من بعد ما غادرَ الآلافُ صهوتَها

حَلَّ الدُّجى وتوارَتْ بسمةُ الفجْرِ

جمالُ روعتِها يذوي وساحتُها

مزابلٌ تحملُ الأحياءَ للقبرِ 

وها أنا اليومَ أرثيها كثاكلةٍ 

تبكي فأبكي ويبكي ضيمَها شعري 

ويلي – أمعشوقةُ الأزمانِ – طاويةٌ 

وأهلُها بين نابِ القتلِ والأَسْرِ

تحيا بموتٍ ولا موتٌ أضَرَّ بها 

مثل المنابِرِ تُردى ليلةَ القدْرِ 

هل يا ترى تعزُ شطَّت بثورتِها 

فعوقِبَتْ برصاصِ الحقدِ والغدْرِ

تنوَّعَتْ قاذفاتُ الهَدمِ وانشطَرَتْ 

أرجاؤها بشواظِ الحُمْقِ والكِبْرِ

ضاقَ الفضاءُ وضاقت كُلُّ رابيةٍ 

من شدَّةِ العُنفِ ضاقَ الصبرُ بالصَّبرِ 

وغادَرَ الناسُ أيامَ الهَنا فزَعاً 

كثافةُ القصفِ ما أبقَتْ على شِبْرِ

شاخَتْ مباهجُها .. فالقصفُ يلثمُها 

مِن مطلعِ الفجرِ حتى مطلعِ الفجْرِ 

لكنها لم تزل تحيا على ثقةٍ 

بأن يعودَ الضيا في آخر الأمرِ

تقول أشواقُ مَن ماتوا وفي فمِهِمْ 

حُلمٌ وفي دمِهمْ سيلُ الأسى يَجري :

ماذا جنى مَن أخافَ الناسَ فارتحلوا 

ومَزَّقَ الأرضَ إنساناً بلا عُذرِ 

وحطَّمَ السِّلمَ في حرْبٍ بلا هدَفٍ 

وأودَعَ الأمْنَ في زنزانةِ الشَرِّ

( تعزُّ ) كالهامةِ الشمّاءِ شامخةٌ 

تقاومُ البغيَ في إيوانِهِ الصخري

تُموسِقُ الداجياتِ الدُّهمِ في وترٍ 

وتنظِمُ الحُبَّ في سيفونةِ الأزرِ

هناكَ فانظُرْ إلى الأبطالِ رميتَهُمْ 

باللهِ موصولةٌ بالشفعِ والوتْرِ 

فرميةُ الحقِّ ما ندَّتْ إصابتُها 

وما رميتَ ولكن .. مالكُ الأمرِ 

تظلُّ مرويةِ التاريخِ شاهدةً 

لأنها من رواةِ الشعر والنثرِ

أبناؤُها حوّلوا التاريخَ ملحمةً 

من البطولةِ بين الكرِّ والفرِّ

عاشوا كراماً وما زالوا أساتذةً 

بين الطباشيرِ والأقلامِ والحِبرِ 

حتى دهَتْهُمْ سهامُ الحربِ فانتفضوا 

كالأسْدِ في الغابِ كالأمواجِ في البحرِ 

سقى الكرامُ ثراها حينما سقطوا 

وألبسوها وسامَ العِزِّ والفخرِ

عَزَّ الثرى بدمِ الأبطالِ وارتفعَتْ 

أرواحُهم في ذرا التخليدِ والذِّكرِ

رواحلٌ صنعوا الأمجادَ في شممٍ 

دماءُ من رحلوا أزكى من العطْرِ

نعم سينتصرُ الرحمنُ في وطنٍ 

أبناؤُه منذ فجرِ الحَقِّ في نصرِ 

تَمَزَّقَ الظُلمُ وانهدَّتْ معاقلُهُ 

وغارَ فرعونُهُ في لجةِ البَحْرِ

وسوم: 634